فضيحة التواطؤ التركي: أردوغان يصرخ في وجه “إسرائيل” وجنوده يقتلون الفلسطينيين في غزة!
أنقرة | وكالة الصحافة اليمنية
يكشف المشهد السياسي في تركيا عن حالة من التناقضات الواضحة في سياستها الخارجية، مما يثير تساؤلات جوهرية حول أهدافها الحقيقية في المنطقة؛ فبينما تتجه نحو تحسين صورتها الإقليمية من خلال مزاعم دعم القضية الفلسطينية، خصوصًا بعد الضربة التي شنها الكيان الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة واستهدفت وفد حركة المقاومة الفلسطينية، تبرز في الوقت نفسه تقارير إعلامية تكشف عن مشاركة مواطنين أتراك في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة حول الموقف التركي الرسمي ويزيد من حالة الارتباك في المشهد السياسي.
المشاركة في جيش الاحتلال
أثارت تقارير إعلامية، كان أبرزها ما نشرته قناة “الجزيرة”، جدلًا واسعًا حول وجود نحو 5 آلاف جندي تركي يحملون الجنسية المزدوجة يقاتلون في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وقد ازدادت حدة هذا الجدل بعد الإعلان عن مقتل 65 جنديًا من أصل تركي وإصابة 110 آخرين في الاشتباكات.
ووفقًا لصحيفة “تركيا”، فإن وجود نحو 20 ألف شخص في تركيا يحملون الجنسيتين التركية والإسرائيلية يمثل قضية أمن قومي حقيقية، لا سيما مع عدم اتخاذ السلطات التركية أي إجراءات حاسمة تجاههم حتى الآن، رغم الضغوط الداخلية.
وعلى خلفية تصاعد الأصوات المنددة بجرائم الإبادة الجماعية المرتكبة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تصدر حزب الرفاه الجديد المعارض حملة واسعة للمطالبة بمحاسبة هؤلاء الأفراد، معتبرًا أن مشاركتهم تُعدّ جريمة بحق الإنسانية.
وفي بيان صادر عن الحزب، دعا زعيمه “فاتح أربكان” إلى تجريد هؤلاء الأفراد من جنسيتهم ومحاكمتهم بتهمة المشاركة في عمليات القتل والجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، وأكد أربكان أن التزام الصمت إزاء ما يحدث في غزة يعني المشاركة في الاضطهاد، وشدد على أن “تركيا يجب أن تحاسب القتلة الصهاينة، لا أن تمنحهم الجنسية”.
تحركات تشريعية
تتزايد المطالب في تركيا لتشريع قانون جديد يهدف إلى محاسبة المواطنين الأتراك الذين شاركوا في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد قدم حزب “هدى بار” الكردي المحافظ مشروع قانون بعنوان “اقتراح قانون بشأن تعديلات قانون الجنسية” إلى البرلمان التركي، والذي يتناول وضع المشاركين في العمليات الإسرائيلية على غزة، ويقترح القانون سحب الجنسية من أي شخص يحمل الجنسية التركية ويثبت تورطه في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي.
كما يتضمن المقترح دعوة هؤلاء الأشخاص للعودة إلى تركيا خلال مهلة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وفي حال عدم استجابتهم، يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لإسقاط الجنسية عنهم ومحاكمتهم بموجب القانون التركي، حتى لو كانت لهم جنسية مزدوجة.
تُعدّ هذه القضية، بحسب دعاة المحاسبة، قضية أمن قومي، حيث يُنظر إلى عودة هؤلاء الأفراد دون مساءلة قانونية على أنها تهديد محتمل، وتُعتبر جريمة الإبادة الجماعية أخطر جريمة بموجب القانون الجنائي الدولي، ولهذا يجب أن يحاكم مرتكبوها ليس فقط على الصعيد الدولي، بل أيضًا بموجب قانون العقوبات التركي، وتوجه الدعوات إلى السلطات التركية، وعلى رأسها الرئيس “رجب أردوغان”، لاتخاذ موقف حاسم يضمن محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
تاريخ من التقلبات
تشهد العلاقات التركية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود مسارات من التعاون الوثيق في باطنها، وظاهرها قليل من التوتر والقطيعة؛ فبالتزامن مع تزايد السجال الأخير بين الرئيس التركي ورئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو”، عادت الأنظار إلى تاريخ العلاقات المتناقض، حيث تتعقد المسارات الأمنية والاقتصادية إلى جانب الرمزية الدينية والسياسية التي تجعل من القدس وغزة مسببات دائمة للتوتر.
اعترفت تركيا بالكيان الإسرائيلي كدولة في مارس 1949، لتصبح أول دولة بأغلبية مسلمة تقدم على هذه الخطوة، وتأسس الاعتراف المبكر لعلاقة عميقة بين الجانبين، خاصة خلال فترة التسعينيات التي وصفت بـ “العصر الذهبي” للعلاقات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، توسعت مجالات التعاون بشكل ملحوظ، خاصة في الجوانب الأمنية والعسكرية، حيث شملت العلاقات توقيع اتفاقيات دفاع مشترك، وصفقات عسكرية، وتعاون استخباراتي وتدريب طيارين أتراك، ووفق تقرير صادر عن مؤسسة “بروكنغز” في واشنطن، وقع الطرفان خلال التسعينيات اتفاقيات للتدريب العسكري المشترك وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
شكلت حرب غزة أواخر عام 2008 وبداية 2009 محطة فارقة في العلاقات، حيث أدان أردوغان العملية العسكرية الإسرائيلية بشدة، وتزايد التوتر إلى مستوى غير مسبوق في 31 مايو 2010، خلال حادثة سفينة “مافي مرمرة”، حين اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلية سفينة مساعدات تركية متجهة إلى غزة، ما أسفر عن مقتل 10 نشطاء أتراك، وهو ما أدى إلى تجميد العلاقات العسكرية والدبلوماسية.
وتصاعد التوتر المعلن مجددًا منذ عام 2018، بالتزامن مع قرار الإدارة الأمريكية نقل سفارتها إلى القدس، ومع هجوم السابع من أكتوبر 2023 والعدوان الإسرائيلي الواسع على القطاع، تصاعد الخطاب التركي ضد تل أبيب، وشبّه أردوغان نتنياهو بـ “هتلر”، واتهمه بممارسات تشبه جرائم الحرب، مشيرًا إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تسير نحو عزلة دولية، إلا أن ذلك التوتر لم يوقف الصادرات والواردات الاقتصادية (الزراعية والتجارية) من وإلى تركيا وإسرائيل على حد سواء.
بين التنسيق والتهديدات
رغم الخطاب الحاد بين أنقرة وتل أبيب، بقيت العلاقات الاقتصادية قائمة بدرجات متفاوتة، ولم ينقطع التنسيق الأمني والاستخباري كليًا؛ فقد نشر معهد “ديان” تقريرًا في منتصف عام 2025 يبين أن أنقرة وتل أبيب لا تزالان تتعاملان بطريقة تحفظ مصالحهما الأمنية، خاصة في سوريا، حيث اتفق الطرفان مؤخرًا على خط ساخن لتجنب التصعيد العسكري هناك. وتُظهر هذه المفارقة بين التصريحات العلنية الحادة والمصالح الأمنية الواقعية المشتركة مدى تعقيد العلاقة.
من جهة أخرى، يرى موشيه إلعاد، الحاكم العسكري الأسبق للضفة الغربية، أن ردّ تركيا على هجوم الدوحة يعكس خشيتها الجدية من أن تُدرج ضمن قائمة الأهداف الإسرائيلية، في ظل القناعة بأن الاحتلال لا يضع لنفسه خطوطًا حمراء لاستهداف قادة المقاومة، وهو ما قد يجعل أنقرة الهدف المقبل.
ويبرز التساؤل حول موقع القضية الفلسطينية في صلب الاستراتيجية التركية، في ظل التباين الواضح بين الخطاب السياسي التركي، الذي يتبنى مواقف داعمة للقضية، وبين الواقع العملي الذي يشهد استمرارًا للعلاقات التجارية والدبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي، بل وتناميها بشكل مضطرد في فترات معينة، وهذا التناقض يدفع إلى تحليل أعمق للسياسة التركية، وما إذا كانت القضية ورقة ضغط سياسي، أم مبدأ استراتيجيًا ثابتًا.
من منظور التحليل السياسي، يمكن النظر إلى الموقف التركي من القضية الفلسطينية كورقة ضغط فعالة تستخدمها أنقرة لتحقيق عدة أهداف استراتيجية. أولًا، على الصعيد الداخلي، يعزز الخطاب المندد بجرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب “العدالة والتنمية”، خصوصًا في أوساط الناخبين المحافظين والمتدينين الذين يرون في دعم القضية الفلسطينية التزامًا دينيًا ووطنيًا، وهذا الدعم يُظهر تركيا كقائدة للعالم الإسلامي والمدافعة عن القدس والأقصى، وهو ما يمنحها شرعية إقليمية ودولية.
ثانيًا، على الصعيد الإقليمي، تستخدم تركيا موقفها من القضية لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية محورية، خاصة في مواجهة الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، وبذلك، تحاول أنقرة أن تفرض نفسها كـ “وسيط” لا يمكن تجاوزه في الأزمات الإقليمية، خاصة في ملفات غزة والقدس، وهذا الدور يمنحها نفوذًا دبلوماسيًا ويسمح لها بالتفاوض مع الأطراف المختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ذرائع الواقعية السياسية لبقاء العلاقات
رغم الخطاب السياسي الحاد، فإن قرار تركيا بعدم قطع علاقاتها التجارية والسياسية بشكل كامل مع الكيان الإسرائيلي ينطلق من نهجها المغلف بذرائع أن الواقعية السياسية تغلب على التوجه الأيديولوجي، معللة ذلك بأسباب من أبرزها أن التبادل التجاري بين تركيا والكيان الإسرائيلي يعد شريان حياة لقطاعات اقتصادية تركية حيوية، خاصة في مجالات الطاقة والصناعة والتكنولوجيا إلى حد كشفت فيه الوثائق أن التجارة بين تركيا وإسرائيل لم تتوقف بعد السابع من أكتوبر، بل سجلت ارتفاعًا قياسيًا.
حيث بلغت صادرات تركيا 2.86 مليار دولار في 2024، وفق تقرير قناة “الجزيرة” (22 مايو 2025) وبيانات قاعدة الأمم المتحدة التجارية (UN Comtrade)، فيما غادرت مئات السفن التركية محملة بالحديد والوقود والمواد الغذائية إلى إسرائيل، وسجلت الصادرات 393.7 مليون دولار خلال أول خمسة أشهر من 2025، ما أثار انتقادات وغضبًا واسعًا تجاه الحكومة التركية.
وعلى الرغم من التوتر السياسي، يستمر التنسيق الأمني والاستخباراتي بين الجانبين، خاصة في مواجهة تهديدات إقليمية مشتركة في مناطق مثل سوريا، تحت ذريعة أن التعاون يخدم مصالح أمنية متبادلة لا يمكن التضحية بها بسهولة، فضلًا عن أن تركيا ترى أن الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع الكيان الإسرائيلي، حتى في أوقات الأزمات، يمكن أن يمنحها نفوذًا أكبر للتأثير على مسار الأحداث؛ فبدلًا من العزلة التي قد تنتج عن القطيعة التامة، تزعم أنقرة أنها تلعب دور اللاعب الفاعل على الساحة الدبلوماسية، والقادر على الضغط والتفاوض من الداخل.
فلسطين كقضية!
في الوقت نفسه، لا يمكن اختزال الموقف التركي برمته في كونه مجرد مناورة سياسية؛ فالقضية الفلسطينية تحظى بتعاطف شعبي عميق في تركيا، وتعتبرها شريحة واسعة من المجتمع قضية أمة تستوجب الحل، وهذا الإيمان يتجسد في الدعم الشعبي للمقاومة، والاحتجاجات المستمرة ضد الانتهاكات الإسرائيلية، ومبادرات المساعدات الإنسانية التي لا تتوقف.
هذا الجانب الأيديولوجي والأخلاقي هو ما يدفع السياسة التركية إلى تبني مواقف سياسية حاسمة في بعض الأوقات، مثل إعلانها الانضمام إلى قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، رغم غياب الدور الحقيقي لهذا الانضمام، وهذا يبين أن التناقض بين الخطاب السياسي القوي والواقع الدبلوماسي والتجاري العملي في الاتجاه الآخر، يوضح أن السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية غير جادة، وأن ما يصدر من مواقف علنية لا يراد من خلالها سوى إرضاء الداخل التركي وإسكاته، وليس مواجهة الاحتلال.