في الوقت الذي تروّج فيه الحكومة المصرية لاتفاقية استيراد الغاز من “إسرائيل” التي أعلن رئيس وزراء الاحتلال المجرم بنيامين نتنياهو الموافقة عليها مؤخرًا، بوصفها خطوة تعزّز موقع مصر كمركز إقليمي لتداول الغاز في المنطقة ، تبرز قراءات سياسية واقتصادية تشكّك في هذا الطرح، وتذهب إلى أن الاتفاقية تحمل أبعادًا تتجاوز الحسابات التجارية، لتطال الأمن الطاقوي والسيادة الاستراتيجية لمصر.
فالصفقة، التي تُقدَّم رسميًا باعتبارها استثمارًا في البنية التحتية المصرية وقدرات الإسالة والتصدير، تأتي في سياق إقليمي ودولي معقّد، يتداخل فيه الاقتصاد بالطاقة، وتفرض فيه الولايات المتحدة مسارًا محددًا لإعادة ترتيب العلاقات بين القاهرة و” تل أبيب” بما يخدم مصالح “إسرائيل” وشركات الطاقة الأميركية و”الإسرائيلية” .
تسويق سياسي لخيارات محدودة
تستند الرواية الرسمية المصرية إلى أن الاتفاقية تتيح لمصر لعب دور الوسيط والمُصدّر للغاز نحو الأسواق الأوروبية، مستفيدة من محطتي الإسالة في إدكو ودمياط ، غير أن خبراء ومراقبين يرون أن هذا الطرح يتجاهل حقيقة امتلاك مصر بدائل واقعية كان يمكن تطويرها أو تفعيلها، سواء عبر زيادة الاستثمارات في الحقول المحلية، أو تنويع مصادر الاستيراد، أو عقد شراكات إقليمية أقل كلفة سياسيًا.
ويثير الإصرار على خيار الغاز “الإسرائيلي” رغم هذه البدائل، تساؤلات حول ما إذا كانت الاتفاقية نابعة من حاجة اقتصادية ملحّة، أم نتيجة ضغوط دولية فرضت مسارًا بعينه، بصرف النظر عن كلفه الاستراتيجية على المدى المتوسط والبعيد.
رهن الأمن الطاقوي
أحد أبرز الانتقادات الموجّهة للاتفاقية يتمثل في ما تخلقه من اعتماد مباشر على “إسرائيل ” كمصدر رئيسي للغاز، وهو اعتماد يُنظر إليه بوصفه نقطة ضعف هيكلية في منظومة الأمن الطاقوي المصري ، فقد أظهرت تجارب سابقة كيف يمكن لـ “إسرائيل” توظيف ملف الإمدادات كورقة ضغط، عبر وقف الضخ أو تقليصه بذريعة الصيانة أو الظروف الفنية.
وجاءت بعض هذه التوقفات في توقيتات حساسة، ترافقت مع حملات إعلامية “إسرائيلية” وطرح علني لمشاريع تتصل بتهجير الفلسطينيين باتجاه سيناء، ما يعزّز إحتمالية استخدام “إسرائيل ” الطاقة كأداة ابتزاز سياسي، وربطها بملفات أمنية وجيوسياسية أوسع .
مكاسب “إسرائيلية”
في المقابل، تبدو المكاسب “الإسرائيلية” من الاتفاقية واضحة ومباشرة. فقد أعلن وزير الطاقة في حكومة الاحتلال إيلي كوهين أن الصفقة ستدرّ على الخزينة “الإسرائيلية” نحو 58 مليار شيكل، أي ما يقارب 18 مليار دولار، من الضرائب والرسوم على مدى عمر الاتفاق. وتُضاف هذه العوائد إلى مكاسب استراتيجية تتمثل في تكريس “إسرائيل” كمورّد طاقة إقليمي، وتعزيز مكانتها في سوق الغاز في المنطقة .
هذا الاختلال في معادلة العوائد يضع علامات استفهام حول طبيعة الشراكة، إذ تحقق “إسرائيل” أرباحًا مالية وسياسية متراكمة، بينما تتحمل مصر كلفة الاعتماد الاستراتيجي وما يرافقه من قيود محتملة على قرارها الطاقوي المستقل.
واشنطن والبوابة الاقتصادية للتطبيع
لا يمكن فصل صفقة الغاز عن الدور الأميركي في هندستها ودفعها قدمًا، فالولايات المتحدة تنظر إلى التعاون الطاقوي بين القاهرة وتل أبيب كأداة لتكريس مسار دمج “إسرائيل” في المنطقة، وإخراجها من عزلتها السياسية، عبر بوابة الاقتصاد والمصالح المشتركة، بعيدًا عن تعقيدات الحلول السياسية التقليدية.
ويُعاد تسويق هذه الترتيبات باعتبارها امتدادًا لما عُرف باتفاقيات التطبيع الإقليمي، حيث تتحول الطاقة إلى رافعة لإعادة تشكيل التوازنات في المنطقة ، حتى وإن جاء ذلك على حساب اعتبارات السيادة الوطنية لبعض الأطراف ، والتي ليس فيها بالتأكيد “إسرائيل” .