المصدر الأول لاخبار اليمن

من المسجد الأموي إلى مستنقع التطبيع.. كيف تحوّلت وعود تحرير الشام إلى استسلام علني؟

عبد الكريم مطهر مفضل | وكالة الصحافة اليمنية:

من المسجد الأموي في قلب العاصمة السورية دمشق، حيث لطالما خُطبت فيه خطب المقاومة والتحرير، خرج قادة الفصائل العسكرية التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” بعد إسقاط النظام ورحيل الرئيس بشار الأسد، مطلقين تصريحات تحرير المسجد الأقصى وشعارات “المصالحة الوطنية”، متعهدين بفتح “صفحة جديدة” تكفل الحقوق لكل السوريين.

لم يكن ليتوقع السوريون والعرب أن تتحوّل تلك الشعارات إلى أكذوبة التحول الجيوسياسي في تاريخ سوريا الحديث، حيث أصبح الحديث عن تحرير فلسطين والجولان السوري طيّ النسيان، ليُفتح الباب على مصراعيه أمام التلويح براية التطبيع العلني مع الكيان الإسرائيلي.

عند سقوط دمشق في 8 ديسمبر 2024 ظهر مشهد فيديو بدا صادمًا للشارع العربي ومفرحًا للبعض منهم، احتشد فيه القادة العسكريون لـ”هيئة تحرير الشام” التابعة لحكام سوريا الجدد من داخل المسجد الأموي وسط العاصمة، مطلقين تصريحاتهم نارية بتحرير المسجد الأقصى في القدس المحتلة والكعبة المشرفة والمسجد النبوي في السعودية.

وفي اليوم التالي، أطلق زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا)، تصريحات أمام وسائل الإعلام الأجنبية، ليعلن “تحرير دمشق من الطغيان” وفق وصفه، متعهدًا بما سماه “عهد جديد” في سوريا.

لكن خطاب الشرع لم يتضمن أي ذكر لفلسطين أو الجولان أو الاحتلال الإسرائيلي، بل ركز على محاسبة مسؤولي النظام السابق، واعدًا بفتح ملفات “الفساد والتعذيب”.

ومع مرور الأيام تعهد الشرع بأن سوريا لن تدخل في أي صراع عسكري مع دول الجوار بما فيها الاحتلال الإسرائيلي وبأن دمشق لن تكون منطلقًا لتهديد جيرانها بما فيهم الكيان الإسرائيلي.

 

خلف الكواليس

 

مصادر استخباراتية غربية كشفت أن الاتصالات بين هيئة تحرير الشام وتل أبيب لم تبدأ بعد سقوط دمشق، بل قبلها بأشهر.

وثيقة مسربة من وزارة الخارجية الأمريكية، بتاريخ 2 أكتوبر 2024، كشفت عن اجتماعات سرية جرت في العاصمة الأردنية عمان، حضرها دبلوماسيون أمريكيون وممثلون عن جهاز “الموساد الإسرائيلي”، إضافة إلى وسيط قطري، بحثت سبل تأمين انتقال السلطة في سوريا.

الوثيقة أشارت إلى استعداد أحمد الشرع لتقديم “ضمانات أمنية لإسرائيل”، تتضمن التنازل عن المطالب التاريخية المتعلقة بالجولان، مقابل اعتراف دولي بحكومته.

 

ومع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، بدا واضحًا أن التحولات الجذرية في سوريا لا تقتصر على تغيير سياسي داخلي، بل امتدت إلى تغيير جذري في العقيدة السياسية والقومية حيث انتقلت سوريا من محور المقاومة إلى محور التطبيع.

مؤخرًا كشفت وسائل إعلام دولية أن حكومة دمشق الجديدة، التي يقودها أحمد الشرع، فتحت قنوات اتصال مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أكده لاحقًا رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، الذي كشف عن شرط “إسرائيلي” واضح للتطبيع الكامل مع سوريا: التنازل رسميًا عن الجولان لصالح “إسرائيل”.

وسُرب لاحقًا أن الحكومة السورية المؤقتة وافقت مبدئيًا على هذا الشرط مقابل اعتراف دولي بها واسقاط عقوبات “قيصر” الأمريكية ودعم اقتصادي كبير.

الرئيس الأمريكي رونالد ترامب كشف أمس الثلاثاء، أن “نتنياهو” هو من طلب من الإدارة الأمريكية بإسقاط العقوبات الاقتصادية ورفع “هيئة تحرير الشام” من لائحة الإرهاب.

 

عنف طائفي

 

لم يكن غريبًا في خضم هذه التحولات أن تتعالى الأصوات المحذّرة من أن مخطط إسقاط دمشق لم يكن هدفه مجرد تغيير النظام، بل كان مدفوعًا بمشروع أمريكي -ممول خليجيًا- وإخواني -تقوده تركيا- لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة.

في خضم هذه التحولات، بدأت حملات ممنهجة تستهدف أبناء الطائفة العلوية في سوريا، بقيادة فصائل مسلحة محسوبة على الحكومة الجديدة.

روايات متطابقة من دير الزور وحمص والساحل السوري تحدثت عن جرائم قتل طائفية، وسط صمت مطبق من الحكومة.

المفارقة أن وسائل إعلام أمريكية روّجت لرواية مثيرة للسخرية تفاعلت معها قيادات إخوانية، مفادها أن “حفيد يزيد بن معاوية” هو من أعاد السلام إلى سوريا، في محاولة لتأجيج الصراع الطائفي بالمنطقة.

 

استهداف المقاومة

 

وفي خطوة مثيرة للجدل، شنت السلطات السورية الجديدة حملات أمنية ضد قادة الفصائل الفلسطينية في دمشق، حيث اعتُقل عدد من القيادات البارزة في حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكتائب شهداء الأقصى، في إشارة إلى تغيير جذري في السياسة السورية تجاه القضية الفلسطينية.

وسائل إعلام فلسطينية أكدت أن عشرات المعتقلين نُقلوا إلى سجون سرية تحت إشراف مباشر من جهاز أمني يتلقى توجيهاته من ضباط أجانب.

هذا التحول ترافق مع استمرار التوغل الإسرائيلي جنوب سوريا لمسافة تجاوزت 25 كيلومترًا باتجاه دمشق، وسط صمت تام من سلطات دمشق الجديدة، التي تجاهلت حتى إصدار بيانات إدانة.

وكان أحمد الشرع قد صرح في كلمة متلفزة بأن أولويات حكومته هي محاسبة المتورطين في تعذيب السوريين، متوعدًا بنشر قوائم بأسمائهم وتقديم مكافآت مالية لمن يدلي بمعلومات عنهم، دون أي ذكر لممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

 

الإخوان والتواطؤ

 

تاريخيًا، لم يسجل لجماعة الإخوان المسلمين أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل، لا في نكسة 1967 ولا في حرب أكتوبر 1973.. وبعد أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي”، بدأت الجماعة وحلفاؤها بالكشف عن تقاربهم مع الاحتلال الإسرائيلي.

وخلال حكم الإخوان في مصر عام 2012، بعث الرئيس المعزول محمد مرسي برسالة شهيرة إلى رئيس الاحتلال الإسرائيلي “شيمون بيريز” وصفه فيها بـ”عزيزي وصديقي العظيم”، معربًا عن تطلعه لتعزيز العلاقات.

وفي ذات العام، دعا القيادي الإخواني عصام العريان علنًا اليهود المصريين للعودة إلى مصر، مطالبًا بإنهاء “معاناتهم تحت حكم نظام قمعي في إسرائيل”.

 

نسخة طبق الأصل

 

اليوم، يبدو أن هيئة تحرير الشام، بحلّتها الجديدة تحت قيادة أحمد الشرع، تكرر ذات السيناريو في سوريا.

فمنذ استلامها السلطة، أرسلت إشارات متتالية إلى الاحتلال الإسرائيلي، معلنة أنها لن تسمح بأن تتحول سوريا إلى مصدر تهديد للاحتلال.

وسمحت الحكومة الجديدة للاحتلال الإسرائيلي بالتمدد في الجنوب السوري، مع إطلاق مشروع “ممر داود” الذي يمتد من الفرات إلى المتوسط، مرورًا بدرعا والسويداء والرقة ودير الزور والبوكمال والتنف وحتى الجولان، ما يعزز نفوذ الاحتلال ويضيق الخناق على العراق.

وإلى جانب ذلك، دمرت الطائرات “الإسرائيلية” مواقع الجيش السوري بالكامل، فيما لم تحرك الحكومة الجديدة ساكنًا، بل عبّرت قياداتها عن تفهمها لهذه العمليات.

 

دور خفي

 

تقارير إعلامية وتحقيقات قادت إلى دور محوري لجماعة الإخوان المسلمين الدولي في هذا التحول.. من خلال التنسيق مع هيئة تحرير الشام منذ عام 2022.

مصدر أوروبي مطلع كشف أن اتصالات جرت بين قيادات الإخوان ومبعوثين أمريكيين بوساطة تركية، تم خلالها بحث ترتيبات ما بعد الأسد، وجرى خلالها الاتفاق على “ضرورة تهدئة الجبهة مع إسرائيل”.

وفي تصريحات غير مسبوقة، قال محافظ دمشق الجديد ماهر مروان لإذاعة NPR الأمريكية إن سوريا لا تعتبر “إسرائيل” عدوًا، وإنها “لا تخشى” من وجودها، مؤكدًا أن حكومته لا تنوي التدخل في أي قضية تمس أمن “إسرائيل”.

بل وصف مروان الغارات الإسرائيلية بأنها “مفهومة” في ظل مخاوف الاحتلال الإسرائيلي من بعض الفصائل التي كانت ناشطة قبل سقوط النظام.

 

سقوط أقنعة

 

في المقابل، احتفت “إسرائيل” بهذا التحول.. ونشرت صحيفة “معاريف” تقريرًا موسعًا للكاتب “جاكي هوجي” وصف فيه أحمد الشرع بـ”الجهادي المتحوّل إلى حمامة سلام”، مؤكدًا أن الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” كانت على تواصل سابق مع فصائل المعارضة السورية.

وأكد أن “إسرائيل باتت تثق أن الحكومة السورية الجديدة ليست خطرًا، بل شريك محتمل”.

تكشف هذه الأحداث المتسارعة عن حجم التحولات الجذرية التي طرأت على المشهد السوري، كما تكشف عن سقوط الأقنعة عن جماعات وتنظيمات لطالما تسترت خلف شعارات دينية.

المشهد في دمشق اليوم يكشف الحقيقة الصادمة.. لا فلسطين ولا الجولان في أجندة الحكام الجدد، بل كل ما يهم هو تثبيت السلطة، ولو بثمن بيع ما تبقى من الكرامة السورية.

لم تعد هناك أي أقنعة.. الجماعات التي رفعت راية الإسلام السياسي لعقود، من الإخوان إلى القاعدة وداعش والنصرة، وصولًا إلى هيئة تحرير الشام، جميعها انتهت إلى حضن التطبيع، وتحوّلت من جماعات متشددة إلى أدوات لخدمة مشاريع تقسيم المنطقة وتصفية قضاياها.

ولم تعد المسألة مجرد تغيير نظام، بل تحولت سوريا إلى ساحة مكشوفة لتمرير المشاريع الإسرائيلية-الأمريكية، وسط صمت مدوٍ من قوى كانت ترفع شعار “المقاومة والممانعة”.

ويبقى السؤال الأهم: هل باتت فلسطين والجولان مجرد أوراق تفاوض ومساومة على طاولات التطبيع؟ وهل بقي في سوريا من يستطيع الوقوف أمام هذا الانهيار الكامل؟

قد يعجبك ايضا