عبدالكريم مطهر مفضل/ وكالة الصحافة اليمنية//
لم يعد قادرًا على رفع الأدان. الحاج سليم إبراهيم عصفور، المؤذن الذي اعتاد أن يجلجل بالأذان من مئذنة مسجد الصحابة في عبسان الجديدة، شرق خان يونس، منذ أربعين عامًا، لم يعد قادرًا حتى على النطق بكلمة “الله أكبر”.. صوته الآن يُسمع فقط كأنينٍ متقطع، يشقّ صدره النحيل، ويصطدم بجدران الخيمة المهترئة، التي تقف بالكاد بين الريح والخذلان.
اليوم، لم يعد صوته يسمع إلا همسًا من داخل خيمة مهترئة، بعد أن فقد أكثر من نصف وزنه، في مشهدٍ يُلخص المجاعة التي يحاول الاحتلال نفيها ببيانات كاذبة.. لم يكن في الأفق أذان، ولا في الهواء طاقة صوت.. لم يكن هيكلًا عظميًا كما الأطفال الذين حاولوا نفي جوعهم بـ”تقرير”، بل شيخًا تجاوز الثمانين، وقد انكمشت ملامحه داخل جسد لم يتبقَّ منه إلا العظم وجلده الواهن.
كان الحاج سليم يجلس بداخل خيام النزوح على بطانية بالية، وبجانبه قطعة خبزٍ يابسة ملفوفة بكيس نايلون، وعيناه المتكحلتان بلون السماء تنظران إلى الأعلى، لا بحثًا عن الغوث، بل كأنه يهمس لربه: “ما الذي يجعل أمة بحجم أمتنا تتفرج علينا ونحن نموت هكذا جوعًا، دون حراك؟”.. يقول أحد أبنائه إنها آخر ما يملكونه منذ يومين.
تجارة مع الجلاد
تشير بيانات التجارة الخارجية المنشورة عبر قواعد بيانات الأمم المتحدة ومنصات اقتصادية موثوقة، إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يستورد من دول عربية كمصر والأردن والمغرب كميات ضخمة من الغذاء: قمح وأرز ولحوم وفواكه وزيوت، بينما سكان غزة، المحاصرون منذ عشرة أشهر، لا يملكون إلا أوراق التين المجففة وحشائش الأرض ليغليها أطفالهم كحساء مرٍّ.
فيما يجلس الحاج سليم تحت خيمة الموت، وفي الوقت الذي تحرم فيه غزة من كسرة خبز وجرعة حليب لطفل، تتكدس شاحنات الغذاء على أبواب موانئ الاحتلال الإسرائيلي، حيث يتناول المستوطنون طعامًا عربيًا وصل إليهم عبر موانئ رسمية، صادرة من دول عربية امتنعت عن إدخال شحنة عدس واحدة إلى أهل غزة.
الطعام العربي لا يصل إلى أهله
الحاج سليم لم يكن فقط مؤذنًا، بل صوتًا مبحوحًا وسط صمت عربي طويل، وكأن الصيام عن الخبز أصبح سنة في غزة، بينما الإفطار على طعامٍ عربي في مطاعم يافا المحتلة “تل أبيب” صار عادة لدى مستوطني الاحتلال.
بين الجوع والخذلان، تمضي غزة في جوعها الجماعي، ويواصل أهلها الموت البطيء وسط صمت العالم، وصخب نفاق الدول التي تشيّد القصور من أموال النفط وتغلق مستودعات الحنطة في وجه الجياع.
لم يكن ظهور الأطفال الهياكل في شمال غزة كافيًا لإقناع العالم بأن مجاعة حقيقية تضرب القطاع، فقد سارع الإعلام العبري ومن يدور في فلكه إلى اختلاق رواية طبية: “الأطفال يعانون من أمراض مزمنة”! أما الحاج سليم، فماذا سيقولون عن جسده النحيل، الذي كان يومًا واقفًا على مئذنة؟ هل يعاني من “مرض مزمن” أيضًا، أم أن الجوع لا يحتاج إلى إذن لكي يفتك بكبار السن؟
وفي المقابل لم تكن حالة الحاج سليم استثناءً.. لكنه كان مثالًا حيًا لدحض أكاذيب الاحتلال، الذي أنكر وجود مجاعة في غزة، متذرعًا بأن الهياكل العظمية من الأطفال يعانون “أمراضًا مزمنة”.. فهل الشيخ سليم مريض أيضًا؟ أم أن الجوع أقوى من قدرة الاحتلال على إخفائه؟
صوت لم يمت