لم يعد حضور قوات صنعاء في معادلة العدوان الإسرائيلي على غزة مجرد موقف رمزي أو تضامني، بل تحوّل إلى أداة استنزاف استراتيجية تضرب الاحتلال الإسرائيلي في واحد من أكثر ملفاته حساسية: الكلفة الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
أحدث اعتراف لمسؤول عسكري “إسرائيلي” رفيع ألقى الضوء على هذا التحول، كاشفًا أن كل مواجهة مع قوات صنعاء تستنزف خزينة الاحتلال الإسرائيلي بعشرات الملايين من الشواكل.
اعتراف نادر بالكلفة
تصدّر اعتراف مسؤول عسكري “إسرائيلي” رفيع بتكلفة التصدي للهجمات المنطلقة من اليمن عناوين الإعلام العبري هذا اليوم، بعدما كشف أمين عام وزارة الحرب الإسرائيلية “م.ب. — أمير برعم” في حديث نُشر على صفحة الصحفي العبري “عميت سيغال”، أن “كل هجمة من هجماتنا في اليمن تكلف في المتوسط نحو 50 مليون شيكل، وكل اعتراض باستخدام صاروخ “حيتس 3″ يكلّف ما بين 15 و30 مليون شيكل”.
هذا التصريح النادر يوضح الفارق الهائل بين تكلفة إطلاق طائرة مسيّرة بـ(مئات الدولارات) أو صاروخ من صنعاء (لا يتجاوز عشرات الآلاف من الدولارات)، وبين تكلفة اعتراضها التي تصل إلى ملايين الدولارات.
هذا الخلل في المعادلة المالية والعسكرية يفتح الباب أمام قراءة أوسع لدور صنعاء في المعركة: من التضامن السياسي إلى الاستنزاف المنهجي.
هذا المقياس المالي الصريح يفتح الباب أمام قراءة أعمق: إسناد قوات صنعاء لغزة بات يُدار كأداة استنزاف متعددة الأوجه تصيب الاحتلال الإسرائيلي على المستويات الميدانية والمالية والسياسية.
استنزاف متعمد
ما بدأ كسلسلة هجمات محدودة بالدرونات والصواريخ تحول خلال الأشهر الماضية إلى نمط من الهجمات المتكررة والمنسقة، توجيهًا واضحًا من صنعاء للتركيز على إضعاف قدرة الخصم ومزجه في أُطر زمنية واستهلاكية تطيل أمد المواجهة.
كل طلقة تُطلقها صنعاء ليست مجرد حدث عسكري، إنها اختبار لقدرة الاحتلال الإسرائيلي على الاستجابة والاستنزاف.
النفقات المباشرة على الاعتراضات والردّ، كما أُبرزت في تصريح برعم، تؤثر فورًا على حسابات الميزانية الدفاعية وتُصعِّب تخطيط الإمداد على المدى المتوسط.
في جوهرها، تعتمد الحرب غير المتكافئة على مبدأ “الضغط بأقل الموارد لإرهاق العدو”، وبالنظر إلى تصريحات برعام، فإن صنعاء نجحت في فرض معادلة استنزاف على الاحتلال الإسرائيلي:
كلفة منخفضة للإطلاق: طائرة مسيّرة محلية الصنع قد لا تتجاوز بضعة آلاف من الدولارات.
كلفة عالية للاعتراض: اعتراض واحد بصاروخ “حيتس 3” يصل إلى 8 ملايين دولار تقريبًا.
هذا يعني أن كل جولة من الهجمات، مهما بدت محدودة، تحمل أثرًا استراتيجيًا على المدى الطويل، إذ تُرغم الاحتلال الإسرائيلي على إنفاق موارد هائلة في جبهة بعيدة جغرافيًا عن غزة، لكنها متصلة بها سياسيًا وعسكريًا.
البعد الاقتصادي والسياسي
الاحتلال الإسرائيلي يواجه في الوقت ذاته حربًا مكلفة في غزة، وأزمات داخلية اقتصادية متصاعدة، تصريحات “برعام” تكشف أن الاستنزاف لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يمتد إلى الاقتصاد.
كل عملية اعتراض أو هجوم مضاد تُسجل كخسارة في الموازنة الدفاعية، وتُحوّل الأموال بعيدًا عن قطاعات أخرى كالتعليم أو الصحة والأهم التطوير العسكري المستقبلي.
كما أن تراجع أسهم شركات السلاح “الإسرائيلية” مؤخرًا – ومنها “بيت شيمش إنجينز” و”نيكست فيجن” – يعكس هشاشة ثقة المستثمرين عندما تترافق العمليات العسكرية مع تهديدات تجارية ودبلوماسية، خاصة في ظل تصاعد الضغوط الغربية على إسرائيل بشأن حرب غزة.
كلفة مالية ومعنوية مزدوجة
تكلفة 15–30 مليون شيكل لكل اعتراض تعني أن ذكاء الميزانية والقرار السياسي باتا تحت ضغوط مستمرة: زيادة إنتاج صواريخ الاعتراض، تسريع عقود شراء أو إنتاج مضاف، وصيانة مكثفة لأنظمة الاعتراض والبنى البحرية والجوية المشاركة في الردّ.
هذه الضغوط لا تُترجم فقط إلى إنفاق مباشر، بل إلى إعادة تخصيص موارد كانت موجهة لجبهات أخرى، في الضفة وغزة أو الاستثمارات الدفاعية المستقبلية.
أما على مستوى المعنويات الداخلية فتكمن الضربة في تكرار إنذارات الصواريخ وانقطاع سلاسل الإمداد التجاري في البحر الأحمر، ما يضع ضغوطًا على الاقتصاد ويزيد التذمّر الشعبي والسياسي.
استنزاف متعدد الجبهات
قوات صنعاء لا تستنزف إسرائيل ماليًا فقط، بل تُضيف عنصر الضغط النفسي والسياسي:
البحر الأحمر: تهديد خطوط الملاحة التجارية يرفع تكلفة الشحن والتأمين على البضائع.
الجبهة الداخلية “الإسرائيلية”: تنامي القلق الشعبي من تعدد الجبهات، وارتفاع كلفة “الدفاع المكلف”.
الدبلوماسية الدولية: توظيف صنعاء لخطاب “إسناد غزة” يضع الاحتلال الإسرائيلي أمام حرج سياسي متزايد، خاصة في ظل تصاعد الأصوات الأوروبية المطالبة بوقف الحرب.
من دفاع مكلف إلى ضغط سياسي-اقتصادي
صنعاء تستفيد من خصائص الحرب غير المتكافئة: انخفاض تكلفة إطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ مقارنةً بتكلفة اعتراضها، وميزة الزمن (القدرة على التجدد واللعب على إطالة أمد المواجهة)، هذا الفارق الاقتصادي يُحوّل المواجهة إلى عملية استنزاف ليس فقط لإمكانات الأسلحة، بل لإرادة الصانع وصانعي القرار لدى الطرف الآخر.
كل دورة اعتراض تُرصد على أنها فقدان نسبي في القدرة على المناورة المالية والتقنية، ومع تكرار هذه الدورات يصبح السؤال: هل استجابة قوات الاحتلال الإسرائيلي التي تستنزفها تلك الدورات لدرجة إعادة النظر في خياراتها الاستراتيجية؟
انعكاسات على السياسة الخارجية والقدرة الصناعية
تكاليف الاعتراض والردّ لا تبقى داخل الصندوق الدفاعي، بل تمتد لتؤثر على علاقات التوريد الدولي، عقود الصناعات العسكرية، والقدرة على تصدير تقنيات دفاعية.
ارتفاع تكلفة التشغيل وفيض الطلب المفاجئ على مكونات منظومات الاعتراض قد يدفع الاحتلال الإسرائيلي إلى تسريع صفقات استيراد مكلفة أو إلى تقليل صادراتها الدفاعية، ما ينعكس بدوره على موازين تجارية وسياسية مع حلفاء وشركاء.
من جهة أخرى، الضغط المستمر قد يولّد ثغرات لوجستية تُستغل من قبل خصوم إقليميين لتعميق عزلة الاحتلال الإسرائيلي أو ضغطها دبلوماسيًا.
استنتاج تكتيكي واستراتيجي
إسناد صنعاء لغزة لم يعد مجرد بيان تضامن أو خطوة رمزية، بل أجبر الاحتلال الإسرائيلي على دفع ثمن استراتيجي حقيقي: مضاعفة الإنفاق الدفاعي، تغيير أولويات الإمداد، وفتح جبهات سياسية واقتصادية جديدة تتطلب معالجة.
بهذه الصورة صارت العمليات اليمنية أداة استنزاف ذات جدوى بالنسبة لصنعاء وحلفائها: رأس مال بسيط نسبيًا يولّد تكاليف كبيرة للطرف المقابل، ويصنع تأثيرًا ميدانيًا وسياسيًا يصعب تجاهله.
معادلة الردع
التحوّل الأبرز هو أن صنعاء لم تعد طرفًا ثانويًا في المشهد، بل أصبحت جزءًا من معادلة الردع، إذا كانت المقاومة في غزة تواجه الاحتلال مباشرة، فإن صنعاء تفرض عليه كلفة بعيدة المدى، ما يحوّل الإسناد العسكري إلى أداة استراتيجية قائمة بذاتها.
وبحسب خبراء اقتصاديين وعسكريين، فإن استمرار هذه الهجمات على وتيرتها الحالية قد يؤدي إلى:
زيادة العجز في ميزانية وزارة الحرب “الإسرائيلية”.
تباطؤ صادرات الصناعات العسكرية بسبب الحاجة لتغطية الطلب المحلي.
ضغوط متزايدة على “حكومة نتنياهو” داخليًا ودوليًا.
ماذا يعني ذلك لأمد الصراع؟
إذا استمرت وتيرة الهجمات والاعتراضات بهذا الشكل فإن نتائج مباشرة قد تشمل تشديد الضغوط على ميزانية الحرب “الإسرائيلية”، تباطؤ صادرات صناعاتها الدفاعية، وزيادة الضغوط الداخلية على صانع القرار السياسي.
استراتيجيًا، تعتمد فعالية هذه الأداة على استمرار القدرة على الإطلاق والتجدد في صنعاء، وعلى قدرة إسرائيل على امتصاص التكلفة أو على إيجاد حلول لخفض تكلفة الاعتراض، سواء عبر تطوير بدائل اقتصادية أو عبر خيارات سياسية تقلّص المناخ الذي يسمح بتوسع هذا النمط من الهجمات.
تخطى إسناد صنعاء لغزة الشعارات والدعم المعنوي ليصبح سلاحًا فعالًا في معركة الاستنزاف، الاحتلال الإسرائيلي الذي يُنفق ملايين الدولارات لاعتراض طائرة مسيّرة أو صاروخ منخفض التكلفة، يجد نفسه أمام معادلة قاسية: مواصلة الدفاع بكلفة باهظة، أو البحث عن حلول سياسية لتقليص جبهات المواجهة.
وفي ظل استمرار العدوان على غزة، تبدو صنعاء مصممة على إبقاء هذه المعادلة قائمة، بما يجعل الاستنزاف الاستراتيجي جزءًا لا يتجزأ من المشهد الإقليمي.