الملف الأسود: وثائق تكشف منهجية نهب ثروات اليمن النفطية بين فساد الداخل وضغوط الجوار
تقرير | وكالة الصحافة اليمنية
كشفت سلسلة حلقات وثائقي بعنوان “الملف الأسود” وبثته قناة المسيرة الفضائية، النقاب عن واحدة من أكبر قضايا نهب الثروات في العالم العربي، حيث تعرضت اليمن لعملية منهجية لاستنزاف احتياطياتها النفطية والغازية.
التقرير، الذي يستند إلى وثائق حصرية وشهادات مسؤولين، يسلط الضوء على شبكة معقدة من الممارسات المشبوهة للشركات الأجنبية، والفساد الداخلي المستشري، وضغوط إقليمية ممنهجة، عملت مجتمعة على حرمان الشعب اليمني من ثروته الرئيسية لعقود.
(التلاعب المنظم والاستحواذ المفرط من قبل الشركات الأجنبية)
في صلب عملية النهب تقف شركات النفط الدولية، وعلى رأسها شركة “هنت” الأمريكية، التي قدمت كنموذج صارخ للتلاعب.
وفقًا للتقارير، قامت الشركة بتعديل اتفاقية المشاركة في الإنتاج لقطاع 18 (مأرب-الجوف) ثلاث مرات، ما أدى إلى مضاعفة مساحة الامتياز الممنوحة لها.
الأكثر خطورة هو التلاعب الممنهج ببيانات الاحتياطيات والإنتاج، حيث زعمت الشركة أن احتياطيات القطاع ستنضب عام 2005، بينما سعت في نفس الوقت لتمديد عملها فيه لخمس سنوات إضافية. والواقع أن القطاع لا يزال منتجًا حتى اليوم وبمعدلات هي الأعلى في اليمن، مما يثبت تناقض بياناتها.
لم تكن “هنت” حالة منعزلة. ففي قطاع 4 بمحافظة شبوة، تولت تحالف شركات سعودية (“نمربترليوم”) وأمريكية (“شيفرون” و”فيليبس”) وإماراتية (“كرسنت”) الامتياز بعد شركة سوفيتية كانت تنتج 10,000 برميل يوميًا.
وبعد أن بدأت الشركة السعودية الإنتاج بأعلى معدل، انخفض الإنتاج بشكل مفاجئ وغير مبرر إلى 250 برميلًا يوميًا فقط، مما أثار تساؤلات كبيرة حول التلاعب المتعمد بأرقام الإنتاج والاحتياطي.
(اتفاقيات مجحفة وهدر للثروة)
كشفت التقارير عن خلل هيكلي في اتفاقيات المشاركة في الإنتاج نفسها، والتي صممت لضمان أن تكون الشركات الأجنبية هي “الرابح الأكبر”. حيث تنص هذه الاتفاقيات على أن تحصل الشركات على ما يسمى “نفط الكلفة” بنسبة تتراوح بين 30% إلى 50% من إجمالي الإنتاج، كتعويض عن تكاليف الاستكشاف والتشغيل.
بعد ذلك، يتم اقتسام الباقي (“نفط المشاركة”)، لتحصل الشركة على نسبة 30% كحد أدنى. هذه الآلية تعني عمليًا أن الشركات الأجنبية كانت تستحوذ على أكثر من نصف النفط المنتج.
وأبرز التقرير مدخلًا آخر للنهب يتمثل في تضخيم تكاليف التشغيل بشكل غير طبيعي، وهو أمر كان سائدًا بسبب غياب الرقابة الفعالة من الدولة وانتشار دفع الرشاوى.
كما أن الاتفاقيات أهملت تمامًا ثروة الغاز المصاحب، وتعاملت معه كمنتج ثانوي، مما أدى إلى هدره في قطاعات مأرب وشبوة وحضرموت.
(الضغوط السعودية لعرقلة الاستكشاف والاستغلال)
يكشف “الملف الأسود” لأول مرة عن وثائق تثبط ضغوطًا سعودية ممنهجة لعرقلة أنشطة التنقيب في اليمن. فقد وجهت وزارة البترول السعودية ووزارة الخارجية والسفارة السعودية في واشنطن مراسلات إلى شركة “هنت” وغيرها من الشركات، تدعي فيها أن أجزاء من مناطق الامتياز في مأرب والجوف (خاصة منطقة صافر) هي “أراضي سعودية صرفة”، وتطالبها بوقف أنشطتها تحت طائلة “القوة القاهرة”.
ووفقًا لمحضر اجتماع رسمي يمني، وزعت الخارجية السعودية على الشركات خرائط مزورة تظهر أجزاء من الامتيازات اليمنية ضمن الجغرافيا السعودية.
هذه الضغوط أدت إلى تعطيل الأنشطة في قطاعات واعدة، لاسيما في حوض الربع الخالي – الذي يعد أهم حوض رسوبي في شبه الجزيرة العربية وهو المنتج الرئيسي للنفط في السعودية وعُمان – وكذلك في قطاعات البحر الأحمر.
وقد أجبرت هذه الضغوط شركات عالمية، مثل “نكسن” الأمريكية، على التخلي عن نشاطها أو الإعلان عن نتائج استكشافية معاكسة للحقائق الجيولوجية.
(فساد النخبة الحاكمة وتواطؤها)
لم يكن النهب بعيدًا عن دائرة الفساد الداخلي. فقد نشر التقرير وثيقة صادرة عن سفارة الإمارات في صنعاء عام 1999، تكشف عن تكليف الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح عفاش لوزير النفط آنذاك بتسليم مبالغ سرية خاصة به من عائدات بيع النفط، مع الإشارة إلى معارضة علي محسن الأحمر لعزل ذلك الوزير، مما يكشف عن تورط أبرز أقطاب النظام في تخصيص حصص شخصية من الثروة النفطية.
كما كشفت وثائق “ويكيليكس” الصادرة عن السفارة الأمريكية في صنعاء عام 2009 أن شركة “أركاديا” البريطانية احتكرت شراء النفط اليمني لعقود لأن وكيلها المحلي كان الزعيم القبلي حميد الأحمر، مما سمح ببيعه بأقل من سعر السوق.
وبعد فرض آلية جديدة للإشراف على المبيعات بقيادة نجل الرئيس الأسبق، أحمد علي عفاش، اندلع صراع خلف الكواليس بين “وكلاء” الشركات الأجنبية من النافذين، حيث وصف حميد الأحمر المنافسين بـ”الحمقى” وتعهد بالاحتفاظ بنفوذه.