في سجن “الدامون” الإسرائيلي، قرب مدينة عكا شمال فلسطين المحتلة، خلف جدران رطبة تبتلع الضوء، تجلس أسيرة فلسطينية تراقب من بعيد غروب يومٍ آخر لا تعرف له تاريخًا. بيدين ترتجفان من البرد، تكتب على كرتونة مبللة كلماتٍ قصيرة لابنتها التي لم ترها منذ عامٍ كامل حيث يتعمد الاحتلال أن يجعل من لقاء الأسيرات مع ذويهن من خلف أقفاص زجاجية عازلة للصوت: “لا تبكي يا صغيرتي.. الحرية قادمة من قلب الليل.”
تلك الرسالة، التي لم تصل أبدًا، تختصر حكاية 49 أسيرة فلسطينية يقبعن في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفق ما يؤكد مدير عام نادي الأسير الفلسطيني أمجد النجار، الذي وصف أوضاعهن بأنها “أشد قسوة مما تتخيله القوانين، وأقسى مما تسجله التقارير”.
يقول النجار إن سجون الاحتلال الإسرائيلي تحولت إلى مختبرٍ للوجع، حيث تُختبر إرادة النساء الفلسطينيات يومًا بعد آخر. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، وثّقت المؤسسات الحقوقية أكثر من 595 حالة اعتقال لنساء فلسطينيات في الضفة والقدس وداخل أراضي 1948، بينما لا أحد يعرف عدد اللواتي اختطفتهن الحرب من قطاع غزة.
الدامون: زنزانات لا تعرف الرحمة
في سجن “الدامون”، حيث تحتجز أغلب الأسيرات، لا يعرف أحد عن بعضهن شيئًا سوى أن حرماتهن تُنتهك يوميًا.
يصف النجار أن نائب مدير السجن يقود شخصيًا عمليات التعذيب، ويقتحم السجانون الغرف بهمجية دون مراعاة الخصوصية، يرشون الغاز ويلقون الشتائم على الأسيرات، في حين تُحرمن من الأغطية والملابس الشتوية ومستحضرات النظافة، وطعامهن قليل وسيء، يغلب عليه البقوليات.
تصف إحدى الأسيرات بكاء زميلاتها خلال جولات القمع: “كانت الأصغر تقدم الأكبر سنًا لتنام على الفرش، بينما ننام نحن على الأرض في غرف مكتظة. وكنت أبكي حين أوصي الأسيرات الأصغر مني كيف يدخرن قليل الطعام ليأكلنه حين يشعرن بالجوع، وأتألم حين نخبئ قليلا من اللبن لمجموعة من الأسيرات.”
تقول الأسيرة رباب في رسالةٍ سرّبتها عائلتها: “في الشتاء، يوزعون علينا البطانيات الممزقة وكأنها تبرع بالبرد.. لا دفء هنا سوى دفء الحنين.”
وفي الزنزانة رقم 6، تقبع الأسيرة شهد ماجد حسن (مواليد 10 أغسطس 2002)، معلمة لغة عربية في المدارس الإنجليزية في رام الله، من دير السودان، تواجه قسوة مماثلة منذ دخولها السجن.
أمهات وأطفال وقاصرات في مواجهة القهر
ويضيف النجار أن الأمهات الأسيرات يعانين بشكلٍ مضاعف، إذ يُحرمن من التواصل مع أطفالهن، ويُجبرن على رؤية وجوههم من خلف حواجز زجاجية.
ويقول النجار: “خلال التحقيق، تُستخدم الأمومة كسلاح ضغط نفسي: التهديد بحرمان الأسيرة من أطفالها أو إيذائهم. إنه ابتزاز إنساني يخترق أعمق ما في الأم من وجع”.
حتى القاصرات المعتقلات لم يسلمن من قبضة الاحتلال، إذ يتعرضن لتحقيقات قاسية لا تراعي أعمارهن، في مخالفة واضحة لاتفاقية حقوق الطفل واتفاقيات جنيف التي تفرض حماية خاصة للنساء والأطفال في أوقات النزاع.
إهمال طبي وتقييد للحياة
تتعمد إدارة سجون الاحتلال تقييد الحركة وتقليص ساعات الفورة وسحب الأدوات الكهربائية، وتمنع العلاج في كثير من الحالات، فلا أطباء مختصون ولا متابعة طبية نسائية، ما يجعل الإهمال الطبي أداة قتلٍ بطيء.
الأسيرات يعانين من أمراض مزمنة دون علاج، ويواجهن تفتيشات جسدية مهينة وعزلًا انفراديًا واعتداءات لفظية وجسدية.
حرمان ثقافي واستهداف الإرادة
ولأن السجن لا يكتفي بالقيد، تمنع إدارة المعتقلات الأسيرات من التعليم ومصادرة الكتب، وتفرض غرامات مالية، لتغدو المعرفة جريمة إضافية خلف القضبان.
يعلق النجار: “الاحتلال يريد المرأة الفلسطينية بلا فكر، بلا صوت، بلا وعي”.
صمود لا يُقهر
ورغم كل ذلك، تبقى المرأة الفلسطينية أيقونة صمودٍ لا تنكسر.
تروي إحدى الأسيرات المفرج عنهن: “تعلمنا أن نزرع الأمل في الجدران، نرسم علمًا من غبار، ونحلم بأن الأبواب تُفتح ذات فجر.”
ويختم النجار قائلاً إن نادي الأسير الفلسطيني قدّم عشرات الشكاوى إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، لكن الصمت ما يزال سيد الموقف.
المرأة الفلسطينية، قلب الوطن النابض خلف القضبان
ورغم الجدران العالية والحديد البارد، تظل المرأة الفلسطينية رمزًا للكرامة والصمود. في زنزانات “الدامون”، حيث تُقاسس الأصوات بالألم وتُوزن الدموع بالحرمان، تزرع الأسيرات بذور الأمل في القلوب الصغيرة، وتعلّم الصغار معنى الصمود قبل أن يعرفن العالم الخارجي.
الأم التي تُبعد عن طفلها، والمعلمة التي تُسلب كتبها وأوراقها، والقاصرة التي تُخضع لتحقيق قاسٍ، جميعهن يشكّلن لوحة الوطن خلف القضبان، حيث تصبح الأمومة والثقافة والإرادة أدوات تحدٍ لا ينكسر.
الأسيرات الفلسطينيات، في كل صرخة ودمعة، يرسمن صورة وطنٍ أسير لا يموت، وإرادةٍ تتحدى السجن والاحتلال، ليصبح قهر السجون مجرد فصل في كتاب الحرية الطويل الذي ستكمله فلسطين يوماً.