رغم شحة الإمكانيات وفي تطور ميداني لافت، أعلنت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مساء اليوم الثلاثاء، أنها عثرت على جثة أسير “إسرائيلي” داخل أحد الأنفاق شمال مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، مؤكدة أن عملية تسليم الجثة ستتم مساء اليوم عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
الحدث، الذي يأتي في خضم مرحلة توصف بأنها الأكثر حساسية في ملف الهدنة والمفاوضات غير المباشرة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال الإسرائيلي، يفتح الباب أمام تداعيات سياسية وأمنية جديدة قد تعيد خلط الأوراق في مسار التفاهمات الإنسانية وملف الأسرى.
تفاصيل الإعلان
في بيان رسمي، أوضحت كتائب القسام أن وحداتها الميدانية عثرت على جثة أحد أسرى الاحتلال داخل أحد الأنفاق شمال خانيونس، خلال عملية تمشيط ميدانية في أحد المحاور القديمة التي تضررت بفعل القصف الإسرائيلي الكثيف.
وأضاف البيان أن الكتائب تعتزم تسليم الجثة عند الساعة الثامنة مساءً بتوقيت غزة، في خطوة قالت إنها تأتي “ضمن الاعتبارات الإنسانية واحترام الاتفاقات المتعلقة بتبادل الجثامين”.
ونشرت الكتائب صورًا لعملية استخراج الجثة، التي قالت إنها تعود للأسير الإسرائيلي “عميرام كوبر”، أحد المفقودين منذ العمليات البرية في خانيونس مطلع العام الجاري، مؤكدة أن تسليمه سيتم عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
توقيت حساس ومغزى سياسي واضح
تزامن هذا الإعلان مع تصاعد التوتر في جبهة رفح بعد اشتباكات محدودة بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال، ما منح الحدث بعدًا إضافيًا في سياق الرسائل الميدانية المتبادلة بين الجانبين.
فمن جهة، تسعى المقاومة – بحسب محللين فلسطينيين – إلى إظهار التزامها بالاتفاقات الإنسانية التي تشمل التعاون في ملف الجثامين والمفقودين، لكنها في الوقت ذاته تبعث رسالة قوة مضمرة إلى الاحتلال مفادها أن زمام الميدان ما زال بيدها، وأنها قادرة على التحكم بمصير الجنود الأحياء والموتى على حد سواء.
ومن جهة أخرى، يرى مراقبون “إسرائيليون” أن الإعلان يضع القيادة السياسية والعسكرية في كيان الاحتلال أمام ضغط داخلي متزايد من عائلات الأسرى، خاصة في ظل الاتهامات المتصاعدة للحكومة بـ”التقاعس” في إنجاز صفقة تبادل شاملة.
معركة إنسانية وسياسية معقدة
ملف الجثامين والأسرى الصهاينة يعد ثاني أكثر الملفات حساسية في الصراع بين فصائل المقاومة والاحتلال الإسرائيلي بعد الملف الإنساني لحرب الإبادة الجماعية وحرب التجويع في غزة، إذ يمثل – بالنسبة للمستوطنين – قضية رمزية وأخلاقية تتجاوز البعد العسكري، بينما تعتبره فصائل المقاومة ورقة ضغط مركزية في أي مفاوضات قادمة.
وبحسب وسائل إعلام عربية ودولية، فإن الوساطة القطرية والمصرية تحاول منذ أسابيع التوصل إلى تفاهمات مبدئية تسمح بتبادل جزئي للجثامين كخطوة لبناء الثقة، تمهيدًا لاتفاق أوسع يشمل الأسرى الفلسطينيين.
ويبدو أن خطوة القسام اليوم قد تحرك هذا الملف من جديد، خاصة إذا ما تم التسليم بسلاسة ووفق بروتوكول إنساني يشرف عليه الصليب الأحمر، وهو ما قد يُفسَّر إقليميًا على أنه بادرة حسن نية من المقاومة، رغم استمرار خروقات الاحتلال.
ارتباك وتكهنات
وسائل الإعلام العبرية سارعت إلى تناول الخبر بعبارات حذرة، إذ قالت القناة 12 العبرية إن كتائب القسام تحاول توظيف الحدث في إطار معركة الوعي، مشيرة إلى أن الإعلان يأتي بعد أيام من تجميد المفاوضات بشأن صفقة الأسرى.
في المقابل، نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مصدر أمني قوله إن العثور على الجثة يؤكد استمرار وجود بنية تحتية عسكرية للمقاومة في الجنوب، رغم مرور عامين تقريبًا على العمليات البرية المكثفة، ما يعزز فرضية أن “الجيش” لم ينجح في تفكيك شبكة الأنفاق بالكامل.
أما عائلات الأسرى “الإسرائيليين”، فقد دعت “حكومة نتنياهو” إلى تكثيف جهودها لاستعادة أبنائها أحياء أو أمواتًا، متهمة قيادة الاحتلال السياسية بـ”إدارة الملف بعقلية العلاقات العامة وليس بعقلية الإنقاذ”.
البعد الإنساني في خطاب المقاومة
اللافت أن البيان الأخير لكتائب القسام استخدم لغة أقل تصعيدًا وأكثر ضبطًا مقارنة ببيانات سابقة، إذ لم يتضمن إشارات قتالية أو تهديدية، بل ركّز على الطابع الإنساني للحدث، في ما يبدو أنه تكييف مدروس للخطاب الإعلامي مع مقتضيات المرحلة الأولى من الهدنة.
ويرى محللون أن هذا التحول يعكس حرص المقاومة على الظهور بمظهر الجهة المنضبطة والمسؤولة أمام المجتمع الدولي، خصوصًا مع تزايد الجهود الأممية لإعادة تفعيل مسار تبادل الأسرى والجثامين كخطوة تمهيدية نحو وقف إطلاق نار دائم.
وفي المقابل، يُتوقع أن يستغل الاحتلال الإسرائيلي الحدث لتصوير الموقف بوصفه نتيجة ضغوطها العسكرية في جبهة الجنوب، في محاولة لإقناع جمهورها الداخلي بأن سياساتها الميدانية تؤتي ثمارها، رغم الانتقادات الواسعة لفشلها في تحقيق أهداف الحرب.
رسائل ميدانية تحت سقف الهدنة
من زاوية أخرى، يحمل توقيت الإعلان دلالات ميدانية واضحة. فالعثور على جثة أسير داخل نفق شمال خانيونس يشير إلى أن المقاومة لا تزال قادرة على التحرك الميداني والوصول إلى مواقع حساسة رغم رقابة طائرات الاحتلال الإسرائيلي المكثفة.
كما يُظهر الحدث أن الهدنة القائمة لم تُنهِ تمامًا النشاط العسكري في الميدان، بل أعادت تنظيمه وفق قواعد اشتباك أكثر هدوءًا، حيث تسعى كل الأطراف إلى تحقيق مكاسب رمزية دون تفجير الوضع بالكامل.
ويشير محللون فلسطينيون إلى أن فصائل المقاومة ربما أرادت من هذا الإعلان إرسال تحذير غير مباشر للاحتلال الإسرائيلي من مغبة أي تصعيد في رفح أو خرق جديد للهدنة، مؤكدة عبر الفعل لا القول إنها ما زالت تمسك بأوراق قوة ميدانية وإنسانية.
البعد الإنساني في معركة الوعي
في ظل التدهور الإنساني الواسع في غزة، يكتسب أي حدث يتعلق بملف الجثامين أهمية إنسانية مضاعفة. فبينما يتحدث الاحتلال الإسرائيلي عن “استعادة جثث جنوده”، يذكّر الفلسطينيون بأن آلاف الجثامين الفلسطينية لا تزال محتجزة في ما يُعرف بـ”مقابر الأرقام” أو في ثلاجات الاحتلال.
وبالتالي، فإن خطوة القسام لا يمكن قراءتها بمعزل عن هذا السياق، فهي تحاول إعادة تعريف مفهوم الإنسانية في الحرب، بتسليم جثة جندي “إسرائيلي” عبر الصليب الأحمر، بينما يواصل الاحتلال – بحسب منظمات حقوقية – منع انتشال جثث الفلسطينيين من تحت أنقاض المنازل المدمرة في غزة.
بين الجمود والتحريك
من المرجح أن تنعكس الخطوة إيجابًا على مسار الوساطات الجارية، وفي الوقت ذاته يحاول الجانب “الإسرائيلي” توظيف تأخير تسليم الجثامين لتشديد شروطه في المفاوضات المقبلة.
أما المقاومة، فستتعامل –وفق خبراء– مع الملف بمنهجية “القطرة بالقطرة”، أي تقديم إشارات محدودة ومدروسة، تضمن بقاء الملف مفتوحًا كورقة تفاوض رئيسية تتيح لها تحقيق مكاسب سياسية وإنسانية أكبر لاحقًا.
حدث إنساني بمغزى استراتيجي
العثور على جثث الأسرى “الإسرائيليين” في غزة وتسليمها عبر الصليب الأحمر ليس مجرد واقعة إنسانية معزولة، بل هو حدث مركّب يحمل أبعادًا سياسية وميدانية متعددة.
فالمقاومة تسعى إلى إعادة ضبط قواعد اللعبة تحت مظلة الهدنة، وتأكيد حضورها الميداني والإنساني في آن واحد، بينما يجد الاحتلال الإسرائيلي نفسها أمام ملف مفتوح يلامس وجدان المستوطنين ويحرج “حكومة الاحتلال” في آن واحد.
وفي ظل هذا المشهد المترنح بين الهدنة والتصعيد، يبدو أن ملف الأسرى والجثامين سيظل العقدة الأكثر حساسية في المعادلة، وربما البوابة التي ستمرّ منها أي تسوية مستقبلية بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، مهما طال الطريق.