لا يكشف الشتاء في غزة، قسوة الطقس كظاهرة مناخية، بل كوثيقة سياسية. فالموت الذي يحمله المطر ليس وليد الطبيعة، بل نتيجة منظومة دولية تُدار بمنطق القوة، حيث تُجرَّد القيم الإنسانية من مضمونها عند أول اختبار حقيقي
شتاء غزة المميت يعرّي بنية المجتمع الدولي كما هي: منظومة تُدار بموازين قوة المال والسلاح، لا بالأخلاق والإنسانية المزعومة. هنا، لا يموت الأطفال من البرد لأن السماء أمطرت، بل لأن بيئة كاملة صُمّمت كي تجعل من أبسط مظاهر الطبيعة خطرًا قاتلًا.
المطر، رمز الحياة في الذاكرة الإنسانية، يتحوّل في غزة إلى عامل موت. ليس لأنه أشد غزارة من غيره، بل لأن الحصار الطويل والقتل والتدمير الممنهج هندس واقعًا يجعل قطرة ماء المطر التي تهب الحياة في أماكن أخرى، تهديدًا وجوديًا مثلها مثل رصاصة القتل. ليس بسبب غزارته بل لأن سياسة الاحتلال تُحوِّل الطبيعي إلى قاتل، وتحمّل الضحية مسؤولية نجاتها المستحيلة.
الحصار: من أداة ضغط إلى مشروع استعمار متكامل
ما يجري في غزة لا يمكن اختزاله في توصيف “حرب” أو “تصعيد”. إنه نتاج حصيلة تراكمية لمنظومة استعمارية عملت، لسنوات، على إضعاف المجتمع من الداخل، وتحويله إلى كيان هش، قابل للانهيار البنيوي عند أول اختبار، عاجز عن الصمود أمام الأزمات المتتالية.
تدمير شبكات الصرف الصحي، اقتلاع البنية التحتية، منع الوقود، تعطيل القدرة التشغيلية للمرافق، واستهداف منظومة الدفاع المدني؛ كلها ليست نتائج جانبية، بل عناصر في نموذج قديم لحروب السيطرة: صناعة بيئة لا تصلح للحياة، ثم اتهام سكانها بالعجز عن التكيّف.
الأمطار كسلاح في حرب غير معلنة
عندما تهطل الأمطار، تغرق الخيام لا لأن الطبيعة قاسية، بل لأن الأرض تُركت بلا شبكات، وبلا حماية، وبلا قدرة على الصمود.
يصف خبراء السياسة هذا النمط بـ«العنف البنيوي»: موتٌ غير مباشر، لا يحتاج إلى رصاصة. في غزة، يُعاد تعريف المطر ليصبح جزءًا من آلة القتل؛ لا بطبيعته، بل بالظروف التي فُرضت حوله.
الطفل الذي يسقط في مياه مختلطة بالصرف الصحي، والمرأة التي تفقد آخر غطاء يقيها البرد، والرجل الذي يقف فوق أرض تحوّلت إلى مستنقع—هؤلاء ليسوا ضحايا الطقس، بل ضحايا هندسة موت مُحكمة، حوّلت الفصول إلى أدوات حرب.
تفكيك منظومة الإنقاذ: جريمة بصمت
ترك الناس يغرقون في الخيام ليس حادثًا طبيعيًا، بل فصل إضافي من “القتل المؤجل والإبادة البطيئة» سياسة تُحقق مكاسب سياسية بأقل كلفة صورية، من دون ضجيج عسكري وإعلامي، وصور الدم المباشر، وبلا مساءلة فورية لكن بأثر تراكمي أشد فتكًا.
المنظومة الإنسانية: حين يتحوّل الصمت إلى سياسة
رغم التحذيرات المتكررة، تقف المنظومة الإنسانية عاجزة عن إحداث اختراق حقيقي. هذا العجز ليس تقنيًا، بل سياسي. القيود المفروضة، وشروط التمويل، ومنع إدخال مستلزمات الطوارئ، تجعل العمل الإنساني جزءًا من معادلة الضبط، لا أداة حماية.
في الحالة الفلسطينية، يتحوّل الصمت الدولي إلى سياسة غير معلنة، تُسهم في تثبيت الواقع بدل تغييره.
المنظمات الدولية تقف اليوم أمام غزة بلا أدوات، لا لقصور تقني، بل لقيود سياسية. التحذيرات تتكرر منذ عقود، فيما يُمنع إدخال الخيام والوقود والكرافانات، وتُخرق الاتفاقات، ويتواصل التجويع.
الإنسانية، حين تتقاطع مع فلسطين، تُدار كإجراء بيروقراطي تابع للمموّلين. الصمت هنا ليس حيادًا؛ الصمت مشاركة في إنتاج النتيجة.
الغرب وسقوط القناع
كما يلفت الصحفي البريطاني “ديفيد هرست” رئيس تحرير موقع “ميدل إيست آي”، يعيش الغرب انفصامًا بين خطاب ليبرالي وممارسة استعمارية. دول تبني سرديتها على حقوق الإنسان، تقف اليوم متفرّجة على طفل يرتجف من البرد، وعلى أم تحاول تثبيت خيمة بيدين مرتجفتين.
الشتاء في غزة يضع الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان أمام تناقضه الجوهري. الدول التي ترفع شعارات الحريات والقيم الكونية، تكتفي بالمراقبة حين تتحوّل أبسط وسائل البقاء – كالخيمة والوقود – إلى مواد محظورة.
لم تعد الأسئلة: لماذا يحدث هذا؟
بل: كيف يُدار نظام عالمي يرى الكارثة، ويمتلك القدرة على منعها، ثم يختار عدم التدخل؟
وهل يمكن لنظام دولي صُمّم لحماية القوة أن ينتج عدالة؟
غزة تجيب بوضوح قاسٍ: هذا النظام لا يفشل لأنه عاجز، بل لأنه يعمل كما صُمّم لحماية القوة، لا الإنسان.
شتاء غزة.. فضيحة للنظام العالمي
ما تكشفه غزة اليوم ليس فقط مأساة إنسانية، بل خللًا عميقًا في بنية النظام الدولي. الشتاء هنا لا يُقاس بدرجات الحرارة، بل ببرودة المواقف، وبعجز العدالة عن تجاوز حسابات القوة.
ما يجري في غزة ليس كارثة طبيعية، بل انهيار أخلاقي دولي. الشتاء في غزة يتحوّل إلى محكمة مفتوحة تكشف حقيقة العالم: عالم يرى طفلًا يغرق في البرد، ويمنع في الوقت ذاته إدخال خيمة يمكن أن تنقذه.
ومع ذلك، يُفضَح هذا العالم يوميًا بشعب لا ينكسر، وبقدرة على تحويل الألم إلى معنى، والمعاناة إلى مواجهة.
الشتاء ليس موسمًا.. بل وثيقة إدانة.
وغزة ليست ضحية فقط.. بل مرآة تعكس موت الضمير العالمي.