جنين.. المدينة التي لا تنام على صوت الاحتلال.. 273 يوماً من الاقتحامات والمقاومة
الضفة الغربية/وكالة الصحافة اليمنية
لا تُطفئ جنين أنوارها أبداً. حتى في أكثر الليالي هدوءاً، هناك رصاص يتسلل من جهة المخيم، وصوت مروحية يقطع سماء المدينة، وصبي يركض ليطمئن إن كان بيت جاره ما زال قائماً. منذ 273 يوماً، تعيش المدينة ومخيمها تحت عدوان مفتوح لا يعرف موعداً للتوقف، ولا لغة سوى الاقتحام والاعتقال والرصاص.
كل صباح في جنين يبدأ بخبر مداهمة، وينتهي بحساب جديد للشهداء. وما بينهما، تنهض المدينة من تحت الركام لتقاوم وتُقاوم، كأنها تُدرك أن البقاء نفسه صار شكلاً من أشكال المقاومة.
مخيم لا يرفع الراية البيضاء
في شوارع المخيم التي ضاقت بالركام والذكريات، تواصل قوات الاحتلال اقتحاماتها اليومية، فيما يردّ المقاومون بما تيسّر من رصاصٍ وعبواتٍ محلية الصنع. لم تهدأ المدينة منذ يناير الماضي، يوم أعلن الاحتلال عمليته العسكرية التي وعد بأنها “سريعة ودقيقة”، لكنها تحوّلت إلى أطول حملة في تاريخ الضفة الغربية الحديث.
اللجنة الإعلامية في جنين وصفت المشهد بأنه “عدوان متواصل على مدينة منكوبة”، مشيرة إلى أن الاقتحامات تمتد من المخيم إلى البلدات الجنوبية والشرقية، وأن المدنيين والمزارعين والمرضى صاروا أهدافاً ثابتة في بنك عمليات الجيش.
لكن رغم آلة الحرب، لا تزال جنين تردّ، تزرع كميناً هنا، وتفاجئ دورية هناك، كأنها تقول للاحتلال: “كل شارع فينا يعرف طريقه إلى المقاومة”.
شهداء خلف القضبان وتحت الجدار
في مشهد يختصر فصول الألم الفلسطيني، استُشهد يوم أمس الأحد، الأسير محمود طلال عبد الله من مخيم جنين بعد صراع طويل مع السرطان داخل سجون الاحتلال، حيث تركته إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلي فريسة للإهمال الطبي حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
كان محمود قد اعتُقل مطلع العام الجاري بعد أن نادته طائرة مسيّرة عبر مكبر صوت لتسليم نفسه، في واقعة تختصر مدى التحول في عقل الاحتلال الذي يعتقل المرضى بالدرونات كما لو كانوا أهدافاً ميدانية.
وفي حادثة أخرى، ارتقى الشاب سليم راجي الفار من بلدة الزبابدة، بعدما تعرض للضرب الوحشي على الرأس على يد جنود الاحتلال قرب الجدار الفاصل أثناء توجهه إلى عمله.
لم يكن مسلحاً ولا مطلوباً، فقط عامل فلسطيني حمل بطاقة عمله، فعاد منها جثة.
قباطية ويعبد.. مدن تحت الحصار
تتحول بلدات الجنوب مثل قُباطية ويعبد كل يوم إلى ساحات مواجهة. في قباطية، اعتقلت قوات الاحتلال أوس حنايشة وثلاثة من أبناء الشهيد محمود الدبعي في حملة وصفتها اللجنة بأنها “استهداف لعائلات المقاومة”.
وفي يعبد، لم تكتفِ قوات الاحتلال بالاقتحام، بل نصبت القناصة على أسطح المنازل، وحوّلت حيّاً بأكمله إلى منطقة عسكرية مغلقة.
وفي واحدة من أكثر الحوادث دلالة على الوحشية “الإسرائيلية” الممنهجة، اعتدت قوات الاحتلال على سائق إسعاف أثناء نقله مريض سرطان، فأصابته بكسر في يده اليسرى وجروح في عينه، رغم وجود تنسيق طبي مسبق.
الواقعة، كما يقول السكان، تختصر تماماً الجوهر الحقيقي للاحتلال الذي يقصف المريض ويحاسب من يسعفه.
طائرات في السماء ومستوطنون في الحقول
لم تعد الطائرات المسيّرة تغادر أجواء جنين، تحلّق على ارتفاع منخفض كأنها تفتّش عن أنفاس الناس، فيما يُكمل المستوطنون المشهد من الأرض باعتداءاتهم على مزارعي الزيتون في كفر راعي جنوب غرب المحافظة.
هناك، تنكّر المستوطنون بزيّ الجنود، وهاجموا قاطفي الزيتون، ما أدى إلى إصابات بالاختناق وحرائق في الأشجار.
يقول أحد المزارعين: “لم يعد الزيتون موسماً للبركة، صار موسم الخوف. نحمل السلال بيد، والحجارة باليد الأخرى”.
سياسة العقاب الجماعي تتواصل
لم تتوقف آلة الاحتلال عند حدود القتل والاعتقال، بل امتدت إلى تخريب النصب التذكارية لشهداء جنين في حي المراح، في مشهد رمزيّ قاسٍ يُظهر رغبة الاحتلال في محو الذاكرة قبل أن يمحو الأحياء.
كما تتواصل الاقتحامات الليلية لقرى رمانة والفندقومية والحفيرة، حيث يترك جنود الاحتلال وراءهم منازل مدمّرة وأبواباً مخلعة وخزائن فارغة.
أحد سكان الحفيرة قال للجنة الإعلامية: “الاحتلال لا يبحث عن مقاومين، بل عن دليل يثبت أنه ما زال قادراً على السيطرة، حتى لو كان الثمن كسر نافذة أو اعتقال طفل”.
65 شهيداً و46 معتقلاً لدى السلطة
وبحسب المعطيات المحلية، بلغ عدد شهداء محافظة جنين منذ بدء العدوان في 21 يناير 2025 نحو 65 شهيداً، بينهم أربعة قضوا برصاص أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في اشتباكات متفرقة.
كما تحتجز السلطة الفلسطينية أكثر من 46 شاباً من مخيم جنين، بينهم مقاومون من كتيبة جنين، يتعرضون للتعذيب في ظروف تصفها عائلاتهم بأنها لا تقل قسوة عن سجون الاحتلال.
هنا تتقاطع الأسئلة المؤلمة: هل تحوّلت جنين إلى سجن مزدوج، أحدهما بإدارة الاحتلال، والآخر بإدارة التنسيق الأمني؟
جنين كمختبر للمواجهة
يرى محللون فلسطينيون وعرب أن ما يجري في جنين يتجاوز البعد الأمني إلى اختبار سياسي شامل يحاول الاحتلال الإسرائيلي من خلاله كسر نموذج المدينة التي لم تخضع.
فالاحتلال يدرك أن جنين تحولت إلى رمزٍ يتجاوز حدودها الجغرافية، وأن إسكاتها يعني إخضاع الضفة كلها. ولهذا تُبقيها تحت الحصار، تُضعف بناها التحتية، وتستنزف مقاتليها، لكنها لم تنجح بعد في كسر روحها.
وفي المقابل، تحولت كتيبة جنين إلى حالة مقاومة متجددة، تفرض إيقاعها في الميدان رغم الفارق الهائل في القوة.
فكلما دمّر الاحتلال بيتاً، خرجت من بين الركام مجموعة جديدة، ترفع السلاح وتعيد للمدينة نبضها.
مدينة تعلّمت أن تعيش تحت النار
في جنين، لا أحد يسأل متى ينتهي العدوان، بل كيف نعيش رغم استمراره.
الناس هناك ينامون على أصوات الرصاص ويستيقظون على أخبار الشهداء، ثم يذهبون إلى أعمالهم، يزرعون الأرض، ويغسلون الركام بالماء المتاح.
يقول أحد سكان المخيم: “لقد اعتدنا أن نحسب أعمارنا بعدد الاقتحامات، لا بعدد السنوات”.
هكذا تبدو جنين اليوم: مدينة ترفض الانكسار، تقاتل لتثبت أن الاحتلال لا يملك آخر الكلمة.
فبين رصاصٍ يعلو، وأذانٍ يُرفع فوق الدمار، تكتب المدينة فصلاً جديداً من حكاية الصمود الفلسطيني التي لا تُختم أبداً.