في الوقت الذي يبذل فيه الوسطاء برعاية واشنطن جهودًا مكثفة لتثبيت الهدنة الهشّة بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وكيان الاحتلال الإسرائيلي، خرج رئيس حكومة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” بتصريحات جديدة أعادت توتير المشهد وأظهرت عمق التناقض بين الخطاب الاحتلال الإسرائيلي والمطالب الأميركية.
فخلال جلسة حكومته الأسبوعية، قال “نتنياهو” إن “إسرائيل دولة مستقلة، ولسنا مستعدين للتسامح مع أي هجمات ضدنا. نرد وفق ما نراه مناسبًا، ولا نسعى للحصول على إذن من أحد للقيام بذلك، نحن نتحكم في أمننا”.
هذه العبارات لم تكن مجرّد استعراض سياسي، بل مثّلت تحديًا مباشرًا لجهود الوساطة الأميركية “خطة ترامب” التي قادت اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين المقاومة الفلسطينية في غزة وكيان الاحتلال الإسرائيلي. وبهذا التصريح، بدا “نتنياهو” كمن يعلن رسميًا أن الهدنة بالنسبة له ليست التزامًا بقدر ما هي فاصل مؤقت بين جولتين من العدوان.
تحدٍ مقصود للوسيط الأميركي
على مدار الأسبوع الذي سبق التصريحات، استقبلت حكومة الاحتلال سلسلة زيارات من مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى، بينهم مبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط ” ستيفن تشارلز ويتكوف” الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس، في محاولة للحفاظ على الهدوء بعد أسابيع من التصعيد العسكري على غزة وتوتر متزايد على الجبهة الشمالية مع لبنان.
لكن خطاب “نتنياهو” جاء ليمحو جزئيًا ما حاول الأميركيون ترميمه، ويبعث برسالة صريحة مفادها أن “القرار الأمني الإسرائيلي لا يُدار من واشنطن، وأن حكومة الاحتلال لن تسمح بتحوّل الهدنة إلى أداة ضغط عليها في الملفات الإقليمية.
مصدر دبلوماسي أمريكي تحدث لوسائل إعلام عبرية قالاً: إن الإدارة الأميركية فوجئت بحدة لهجة “نتنياهو”، لأنها تتناقض تمامًا مع التزامات “إسرائيل المكتوبة في تفاهمات وقف النار، والتي نصّت على تنسيق أي رد عسكري كبير مع الوساطة الأميركية لتجنب انهيار الاتفاق”.
ويضيف المصدر أن “الجانب الإسرائيلي يستخدم دائمًا مفهوم السيادة لتبرير الخروج على التفاهمات، خصوصًا حين يشعر بأن واشنطن تحاول فرض إيقاع سياسي عليه”.
ما وراء الخطاب: أزمة داخلية واستثمار خارجي
في الداخل “الإسرائيلي” المأزوم، يعاني “نتنياهو” من أزمة ثقة سياسية وشعبية غير مسبوقة، بعد عامين من العدوان المستمر على غزة، وتراجع الاقتصاد، واحتدام الخلافات داخل ائتلافه اليميني المتطرف.
وبحسب تقارير عبرية، فإن تصريحات “نتنياهو” الأخيرة ليست موجهة فقط للخارج، بل تهدف بالدرجة الأولى إلى إعادة ترميم صورته داخل معسكر اليمين المتطرف، حيث يواجه ضغوطًا من وزراء كـ”سموتريتش” و”بن غفير” الذين يتهمونه باللين في التعامل مع الضفة الغربية ولبنان.
المحلل السياسي العبري “يوآف شاحر” قال لصحيفة “هآرتس” العبرية إن “نتنياهو يستخدم الخطاب الأمني لإعادة إنتاج صورته كزعيم قوي، في وقت يشعر فيه جمهوره بأن الحكومة تخضع لإملاءات واشنطن”. وأضاف: “التصعيد الكلامي ضد أميركا هو وسيلة داخلية أكثر منه موقفًا استراتيجيًا حقيقيًا”.
لكن هذه المزايدة السياسية لا تمر دون أثمان. فكل مرة يلوّح فيها “نتنياهو” بـ”اليد الطولى” ضد غزة أو لبنان، تتراجع فرص تثبيت الهدنة، ويزداد الضغط الميداني على سكان القطاع الذين يدفعون ثمن أي خرق أو توتر جديد.
الهدنة: التزام إنساني أم هدنة مشروطة؟
تصف إدارة ترامب اتفاق الهدنة بأنه “خطوة أولى نحو وقف دائم للأعمال العدائية”، لكن حكومة الاحتلال الإسرائيلي تتعامل معه كـ”ترتيب أمني مؤقت” يمكن تعديله أو تجاوزه متى شاءت.
فمنذ دخول الاتفاق حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر الجاري، وثّقت منظمات دولية بينها أطباء بلا حدود عدة استمرار القيود على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ورفض الاحتلال السماح بإدخال المعدات اللازمة لإعادة تشغيل البلديات والمنشآت الصحية، ما أدى إلى تفاقم الأزمة المعيشية.
وبينما يطالب الوسطاء بفتح الممرات الإنسانية ورفع الحصار تدريجيًا، يصرّ “نتنياهو” على ربط أي تسهيل ميداني للمساعدات الإنسانية بـ”ضمانات أمنية” لم تتحقق بعد، وهو ما يجعل المساعدات الإنسانية عمليًا أداة تفاوض سياسي أكثر منها التزامًا إنسانيًا وقانونياً وأخلاقياً.
يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط الدكتور “أنطوان شلهوب” إن “إسرائيل تتعامل مع المساعدات والهدنة والمنفذ الحدودي كملفات متصلة ضمن مفهوم الردع”، موضحًا أن “كل خطوة تخفيفية مشروطة بسلوك المقاومة الفلسطينية، وليس بحاجات السكان”.
العلاقة المتوترة مع واشنطن
منذ عودة إدارة ترامب إلى سياسة “الانخراط الدبلوماسي” في ملف الصراع العربي – “الإسرائيلي”، لم يتمكن البيت الأبيض من فرض أي انضباط فعلي على “حكومة نتنياهو”.
ويشير مراقبون إلى أن التباين في الخطاب بين الجانبين بات علنيًا أكثر من أي وقت مضى، إذ تعتبر واشنطن أن استمرار الاعتداءات “الإسرائيلية” على غزة أو لبنان يهدد توازنات المنطقة، بينما يصرّ “نتنياهو” على أن “حرية العمل العسكري” خط أحمر لا يخضع للنقاش.
وتعكس تصريحات “نتنياهو” الأخيرة هذه الفجوة المتنامية، فهي رسالة بأن حكومة الاحتلال لن تقبل بقيود سياسية حتى من أقرب حلفائها. كما أنها تأتي في وقت تسعى فيه واشنطن لتجميد التصعيد خشية انزلاق المنطقة نحو مواجهة أوسع مع حزب الله في الشمال.
المعلق الأميركي “توماس فريدمان” كتب في “نيويورك تايمز” أن “نتنياهو يحاول استخدام الهدنة لتخفيف الضغط الداخلي، بينما يحمّل واشنطن مسؤولية فشل الاستقرار”.
وأضاف أن “هذه المقاربة قد تكلّف إسرائيل كثيرًا في علاقتها مع إدارة ترامب التي بدأت تضيق ذرعًا بخطاب التحدي الإسرائيلي”.
من الحرب إلى إدارة التوتر
وعلى ما يبدو أن حكومة الاحتلال تحاول إعادة تعريف المرحلة الحالية بأنها “إدارة توتر لا إدارة سلام”، أي الحفاظ على الهدوء بحدّه الأدنى دون الالتزام بمسار سياسي طويل الأمد.
وبينما تواصل الفصائل الفلسطينية التمسك بالتهدئة مقابل رفع الحصار وتحسين الأوضاع الإنسانية، يرى “نتنياهو” في ذلك “خضوعًا سياسيًا” لا يرغب بإظهاره أمام جمهوره.
ويمكننا القول: إن النتيجة، وفق الخروقات الإسرائيلي في غزة ولبنان، أن الاحتلال الإسرائيلي يحافظ على حالة “اللاسلم واللاحرب”، لتبقي كل الخيارات مفتوحة أمامها: الرد المحدود حينًا، والقصف الواسع حين تقتضي الحسابات الداخلية ذلك.
وتُظهر تصريحات “نتنياهو” أن الهدنة ليست نهاية العدوان، بل شكل آخر من إدارته. فحين يعلن رئيس حكومة الاحتلال أنه لا ينتظر إذنًا من أحد لضرب غزة أو لبنان، فإنه يرسل رسالتين واضحتين:
الأولى، للداخل الإسرائيلي المأزوم مفادها أن حكومته ما زالت تملك زمام المبادرة رغم الضغوط.
والثانية، للولايات المتحدة والعالم، تقول إن الاحتلال الإسرائيلي لا يعترف بحدود دبلوماسية.
وبين هاتين الرسالتين، يظل المدنيون في غزة ولبنان أكثر من يدفع ثمن الخطاب “الإسرائيلي” المتصلّب، فيما تتآكل جهود الهدنة يوماً بعد يوم تحت وطأة الحسابات السياسية والعسكرية في كيان الاحتلال الإسرائيلي.