بعد أيام من بقائها في العراء، تحركت 3 سيارات إسعاف مجهزة بطواقم طبية متخصصة من مديرية الشحر، يرافقها قيادات من مليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي التابع للإمارات، باتجاه منطقة “خرد” لانتشال جثث قتلى من فصائل الدعم الأمني، سقطوا خلال المواجهات الأخيرة مع رجال حلف قبائل حضرموت المدعوم من السعودية.
مشهد الانتشال المتأخر الذي جاء بعد ثلاثة أيام، لم يكن تفصيلاً عابراً، بل نافذة كاشفة عن تحول أعمق في معادلة القوة شرق اليمن.
ضربات جوية وتبدّل خطوط التماس
بحسب مصادر محلية وأمنية متطابقة، جاءت هذه التطورات عقب ضربات جوية نُسبت إلى الطيران السعودي استهدفت مواقع لفصائل مسلحة موالية للإمارات، في محيط الساحل الحضرمي ومناطق في وادي وصحراء حضرموت.
اللافت أن الضربات السعودية – إن تأكدت ملابساتها – لم تستهدف جماعات معادية للتحالف، بل قوى محسوبة على أحد أطرافه، ما يعكس تصدعًا غير مسبوق داخل بنية التحالف نفسه.
وبحسب ذات المصادر، فإن الجثث ظلت ملقاة في العراء لعدة أيام، في مشهد أثار حالة من الاستياء والقلق في أوساط السكان، لا سيما مع تصاعد المخاوف الإنسانية والصحية الناتجة عن ترك القتلى دون انتشال أو دفن، في ظل أجواء أمنية متوترة وانعدام أي ترتيبات ميدانية واضحة خلال الأيام الماضية.
تأخر يثير التساؤلات
وأشارت المصادر إلى أن تأخر عملية الانتشال جاء نتيجة استمرار التوتر في المنطقة، وغياب التفاهمات الميدانية الآمنة التي تتيح وصول الفرق الطبية، وسط مخاوف من تجدّد الاشتباكات أو استهداف الطواقم خلال تحركها.
ورغم التحرك الإسعافي، لم تصدر حتى لحظة إعداد هذا التقرير أي بيانات رسمية توضح العدد الدقيق للقتلى، أو ملابسات تأخر عملية الانتشال، أو الخطوات اللاحقة المتعلقة بتسليم الجثث ودفنها.
صراع الرياض وأبوظبي: من الشراكة إلى التنافس
رغم الشراكة المعلنة بين السعودية والإمارات في اليمن، تكشف التطورات الميدانية عن تنافس صريح على الثروات النفطية والغازية والمواقع الاستراتيجية في المحافظات اليمنية الشرقية، خصوصًا حضرموت والمهرة وشبوة.
فبينما تسعى الرياض إلى تثبيت نفوذها وفتح ممر نفطي من حضرموت باتجاه خليج عدن عبر ترتيبات أمنية مباشرة، ترى أبوظبي في “المجلس الانتقالي الجنوبي” وأذرعه المسلحة أداة استراتيجية للسيطرة على الموانئ وخطوط الطاقة.
وتضع الضربات الجوية السعودية هذا التنافس في خانة المواجهة غير المباشرة، بدل الاكتفاء بإدارة الخلافات في الكواليس.
يقول عبدالله “أبوهادي” مسؤول حضرمي سابق وعضو قيادي في حزب المؤتمر في تصريح خاص لوكالة الصحافة اليمنية: ” الإمارات خططت منذ الأيام الأولى للسيطرة علي المنافذ والجزر الاستراتيجية وموانئ ومنابع الثروة اليمنية السيادية، من خلال تجييش وعسكرة فصائل مسلحة بداية من الأحزمة النارية وقوات الدعم الأمني إلى قوات العمالقة الجنوبية بهدف السيطرة على السواحل اليمنية، فيما السعودية تأخرت لأسباب مجهولة لتتفاجأ بأن الإمارات بدأت بالزحف والسيطرة على المناطق النفطية”.
وأضاف “التحرك والصحوة السعودية الأخيرة جاءت بعد سيطرة الإمارات على كافة المحافظات الجنوبية والشرقية اليمنية”.
لماذا حضرموت؟
تُعد حضرموت أكبر المحافظات اليمنية مساحةً، والأغنى بالنفط والغاز والموانئ البرية والبحرية، وتمثل شريانًا اقتصاديًا استراتيجيًا لأي قوة تسعى لترتيب نفوذ طويل الأمد شرق البلاد.
وتشير تحليلات إلى أن الاشتباكات بين الدعم الأمني أحد فصائل “الانتقالي الجنوبي” وحلف قبائل حضرموت لم تكن سوى أحد مظاهر إعادة رسم النفوذ لدول الإقليم ممثلة في الإمارات والسعودية، حيث ترفض قوى قبلية محلية تمدد تشكيلات مسلحة خارج الإجماع الحضرمي، في مقابل مساعٍ لفرض أمر واقع أمني بقوة السلاح لصالح الفصائل التابعة للإمارات التي تدعو إلى تقسيم اليمن.
أسئلة معلّقة بلا إجابات
رغم خطورة المشهد، يخيّم الصمت الرسمي لـ”الانتقالي” عن أسباب تأخر عملية انتشال الجثث أيامًا؟
هل كانت المنطقة غير آمنة بسبب الاشتباكات فقط، أم نتيجة ضربات جوية محتملة؟
من يملك قرار السلم والحرب في حضرموت: السلطة المحلية أم القوى الإقليمية؟
وهل تتحول المحافظة إلى ساحة تصفية حسابات بين حلفاء الأمس؟
أبعاد إنسانية وأمنية
ويرى سكان محليون، أن ترك الجثث في العراء لأيام يعكس هشاشة الوضع الأمني، وغياب التنسيق بين الأطراف المتصارعة، إضافة إلى تراجع الاعتبارات الإنسانية أمام الحسابات العسكرية والسياسية.
وفي الوقت الذي تترقب فيه الأوساط المحلية نتائج هذه العملية، لا يزال الصمت الرسمي سيد الموقف، في ظل مطالبات شعبية بضرورة تحييد العمل الإنساني والطبي عن الصراع، وضمان احترام القيم الإنسانية، بغض النظر عن طبيعة الخلافات القائمة.
كما يحذر السكان، من تداعيات مثل هذه المشاهد على السلم الاجتماعي في حضرموت، مؤكدين أن استمرار التصعيد قد يفتح الباب أمام مزيد من العنف والانقسامات القبلية، في واحدة من أكثر المحافظات اليمنية حساسية واستقرارًا نسبيًا خلال السنوات الماضية.
الكلفة الإنسانية لصراع المصالح
بعيداً عن خرائط النفوذ، يدفع المدنيون الثمن: تعطّل الحياة اليومية، خوف دائم، وتآكل ثقة المجتمع المحلي بأي ترتيبات أمنية مفروضة بالقوة.
يعلق “أبو هادي” قائلاً: إن استمرار هذا النهج ينذر بانفجار اجتماعي في محافظة عُرفت تاريخيًا بتماسكها وسلمها وابتعادها عن الصراعات الحزبية والعسكرية من استقلال جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1969، وقد يدفع قوى قبلية أوسع إلى مواجهة مفتوحة.
ما جرى في منطقة “خرد” الحضرمية لا يمكن فصله عن صراع إقليمي صامت على ثروات الشرق اليمني. فانتشال الجثث كان الفصل الأخير من مشهد أكبر، عنوانه:
حين تتحول المحافظات الغنية إلى ساحات صراع دموي بين شركاء السلاح.. تصبح الجثث أول الأدلة وخراب المدن وتمزيق تماسكها الاجتماعي النهاية الحزينة.
الإمارات: حلقة الوصل بين الكيان وشرق أفريقيا
تأتي الضربات الجوية السعودية بعد يوم واحد من الاعتراف “الإسرائيلي” بـ”الصومال لاند” كدولة مستقلة.
وبحسب تقارير عبرية، حظي الاعتراف الإسرائيلي بدعم إماراتي مباشر. وتتمتع أبوظبي بنفوذ عسكري واقتصادي واسع في “صومال لاند”، عبر قاعدة بربرة العسكرية التي تضم ميناءً عسكريًا ومدرجًا للطائرات المقاتلة وطائرات النقل.
وتشير تقديرات نشرتها صحيفة “والا” العبرية، إلى أن هذه القاعدة شكّلت جزءً من البنية اللوجستية للحملة العسكرية التي قادتها الإمارات والسعودية في اليمن، خصوصًا في دعم قوى انفصالية جنوبية، ما يجعلها عنصرًا محوريًا في أي ترتيبات أمنية مستقبلية مرتبطة باليمن، كما يجعلها نقطة تقاطع بين الملفين: القرن الأفريقي واليمن.