لم يكن مساء الأحد الماضي في منطقة ثقبان بمديرية بني الحارث شمال العاصمة صنعاء كأي مساء.. كانت أم محمد نشوان الجملولي تجلس على سجادتها، تنظر إلى ساعة الحائط لعودة النساء من عرس ذهبن إليه وعودة أبنها محمد الذي ذهب لإحضار وجبة عشاء.. بجوارها جلس عمر ابنها الصغير الذي لم يُكمل عامه الحادي عشر، يحمل بيده دمية قديمة ويحادثها كأنها صديق.. يحادثها ببراءة عن وجبة العشاء التي سيحضرها شقيقه محمد من السوق القريب.. كانا يتوقعان الباب يُفتح، وأن يحمل محمد كيس الخبز وربما علبة زبادي صغيرة، لكن ما وصلهم أولاً لم يكن محمد… بل صاروخ أمريكي.
منزل العشاء الأخير
“عاد محمد، لكن لم يجد بيتًا، لم يجد أحدًا.. لم يتبق شيء سوى رماد يتناثر فوق الذكريات.؟
خرج محمد نشوان الجملولي ليجلب العشاء لأمه وشقيقه الصغير عمر، لكن الصاروخ الأمريكي كان قد سبقه وسبق العشاء، ضربة واحدة بلا سابق إنذار حوّلت المنزل إلى ركام، ونسفت الأحلام.. ودفنت تحت الركام أمًا حنونة وطفلاً بريئًا، توقّف الزمن هناك.. لم يكن موتًا، بل مجزرة لم يجد محمد فيها سوى الرماد، وجسدين هامدين، وألم لا يشبه أي ألم.. وبدل أن يعود محمد بعشاء، عاد ليجد أمه وأخاه قد صارا أشلاءً تحت الركام.
احترق قلب محمد مرتين.. مرة حين رأى جثتي والدته وشقيقه، ومرة حين أدرك أن الأمريكيين لا يقتلون فقط بالجسد، بل يفتكون بالأمل، ويطاردون كل من يحمل ذرة ضمير.
لم يكن محمد ناشطًا سياسيًا، ولم يكن يحمل سلاحًا.. كان شابًا طيبًا مكافحاً، يعمل ليُعيل أسرته، ويكتب أحيانًا على صفحته في “فيسبوك” عبارات غاضبة على مشاهد القتل في غزة أو صنعاء.. لم يتوقع أن تتحول صفحته إلى شاهد قبر افتراضي، وأن ينال بيته في اليوم التالي نفس المصير.
قبلها بيوم، نشر مشهد فيديو يُوثق جريمة استهداف منزل أحد حارس مبنى في حي 14 أكتوبر بصاروخ أمريكي، كتب فيه: “حتى حراس المباني لم يسلموا من قصفكم… يا أصحاب القلوب المحترقة بالحقد”.. كتب بأسى: “أي قلب يحمله هذا الطيار؟”.. لم يكن يدري أن السؤال الذي سكن كلماته، سيتحول إلى مرآة لما ينتظره غدًا.
وفي اليوم التالي، جاءه الرد… صاروخ أمريكي اخترق سقف بيته، فقتل أمه وأخاه. بدمٍ باردٍ، وتخطيط محكم، وإحداثيات لا تُخطئ.
رفيق الدنيا والأخرة
الطفل الشهيد عمر
كان الطفل عمر ملازمًا لوالدته لا يفارقها، صار سندها.. يملأ عليها البيت حنانًا بعد رحيل والده، ورفيقها الصغير الذي يملأ صمت المساء بحكايات الطفولة.. كان يرافقها في وحدتها التي لا يبددها سوى صوته وضحكاته، كان نعم الرفيق في الدنيا.. وفي الأخرة.
خسارة ما بعدها خسارة
محمد لم يخسر بيتًا فقط، بل خسر معنى الحياة.
لقد عاد محمد بالعشاء ليرى النعوش تنتظره.. صار يكتب دون أن يكتب، يمشي دون أن يشعر، ويحمل في قلبه سؤالًا لا يجد له إجابة: “بأي ذنب قُتلوا؟”.
لم يكن العشاء الذي تأخر سبب الكارثة، بل هو القلب الأمريكي الذي لم يعد يعرف الفرق بين جندي وعدو، بين أم وطفل جائع، بين بيت ومخبأ.
لقد تجاوز الحقد الأمريكي كل الحدود.. لم يعد يستثني حتى من يبكون على ضحاياهم، بل باتت دموعهم تُراقب، وتتحول إلى إحداثيات قصف قادمة.
وفي مكان ما، طائرة أمريكية حلقت عاليًا، عادت إلى قاعدتها، وتركته هناك… يدفن كل شيء.
أرقام تُدمي القلوب
في المنزل المجاور، لم يكن الحال أفضل.. هناك، استشهد المواطن علي يحيى صلاح مسعود وزوجته، ومعهما ستة من أطفالهم — أربعة بنات، وولدان. لم يتبق شيء يُعرف به البيت سوى رائحة الدخان، وأسماءٌ منقوشة على دفاتر المدرسة… اختفت مع أجساد أصحابها.
وفي منزل ثالث، استشهد فتى في الـ16 من عمره، وتصارع شقيقتاه الموت في غرفة العناية المركزة، الدم واحد.. والمجزرة واحدة.. والمجرم معروف.
وزارة الصحة والبيئة في صنعاء أحصت في مجزرة ثقبان 12 شهيدًا، أغلبهم من النساء والأطفال، و4 مصابين.
لكن الأرقام لا تبكي، ولا تصرخ، ولا تنام على الحطام.. الأرقام لا تروي كيف كان عمر يركض ليلًا ليلتحف حضن أمه، ولا كيف كانت الأم تحتضنه عند كل قصف كأنه ما يزال رضيعًا.
أسئلة تنتظر الجواب
صنعاء صقبان محمد فوق أنقاض منزله
محمد اليوم يمشي بين الناس كأن على كتفيه جبلين من الرماد، يتساءل: “هل يُحاسب القاتل؟ هل يسمع أحد في هذا العالم؟ هل كانت جريمة أن تحب الناس وتكتب منشورات عن ماسيهم؟”
وفي الجواب، لا تجد سوى الخذلان.. خذلان عالمي، وخذلان عربي، وصمتٌ مدوٍّ في حضرة دمٍ لا يزال ينزف.
غداً الحلقة الثالثة جريمة استهداف عائلة المواطن علي يحيى مسعود