المصدر الأول لاخبار اليمن

قراءة في خطاب السيد عبد الملك الحوثي.. اليمن في قلب الحرب الوجودية

صنعاء | وكالة الصحافة اليمنية

في خطاب تاريخي أمام الملايين من اليمنيين المحتشدين في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء وسائر المحافظات اليمنية، أعاد السيد عبد الملك بدرالدين الحوثي صياغة معادلة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه، مؤكدًا أنها حرب وجودية تتجاوز حدود غزة وفلسطين لتطال المنطقة بأسرها، من اليمن إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران، وقد تمتد لتطال الدول المطبعة وعلى وجه الخصوص الأردن ومصر والسعودية.

خطاب السيد الحوثي جاء في توقيت بالغ الحساسية، حيث يدخل العدوان الإسرائيلي على غزة شهره الثالث والعشرين، وقد تحولت من مواجهة عسكرية محصورة في قطاع محاصر لقرابة 20 عامًا إلى صراع إقليمي مفتوح، تتقاطع فيه خطوط النار بين ساحات متعددة، وتتشابك فيه الحسابات الاستراتيجية بين قوى كبرى، ما أسفرت عن توسع رقعة الصراع إلى لبنان وسوريا وإيران والعراق، لتضع اليمن في محور الصراع ليس بوصفه مراقبًا، بل كلاعب رئيسي على المسرح الإقليمي.

هذا التحليل يحاول مناقشة أبرز الرسائل التي حملها الخطاب التاريخي للسيد عبدالملك الحوثي، وربطها بالمعطيات الميدانية والسياسية، واستقراء التحولات الجارية التي تؤكد أن ما يجري ليس مجرد جولة عابرة كما اعتاد الاحتلال الإسرائيلي توصيفه، بل حرب فاصلة على مستقبل المنطقة برمّتها.

 

من غزة إلى صنعاء 

أعاد السيد الحوثي في خطابه التأكيد على أن الحرب مع الاحتلال الإسرائيلي ليست حربًا على غزة وحدها، بل جزء من مخطط أوسع لتفكيك الأمة الإسلامية جمعاء، مستشهدًا بما أسماه “الحرب الناعمة” التي استهدفت ملياري مسلم لإدخالهم في حالة من الهوان أمام مشروع صهيوني صغير عدديًا لكنه واسع النفوذ.

وركز السيد الحوثي في خطاباته الأخيرة على نقطتين أساسيتين لجرائم الاحتلال:

الجرائم في غزة: حيث وصف ما يجري بأنه “جريمة القرن وفضيحة العصر”، مشيرًا إلى أن حرمان الأطفال من الحليب، واستهداف الأقصى والضفة، دليل على أن العدوان تجاوز حدود الحرب العسكرية إلى حرب إبادة ممنهجة وصراع وجودي.

الاغتيال في صنعاء: حين استهدف التحالف الإسرائيلي ـ الأميركي حياة رئيس حكومة البناء والتغيير وعدد من رفاقه الوزراء في العاصمة اليمنية، في خطوة أراد من خلالها توسيع رقعة الحرب وتهديد استقرار المنطقة بالكامل، بما يؤكد أن اليمن ليس بعيدًا عن المعركة.

 

وحدة الساحات

يتقاطع الخطاب بوضوح مع الفعل المقاوم في لبنان وإيران والعراق وفصائل المقاومة في غزة.

في فلسطين: تواصل فصائل المقاومة تكبيد الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والعتاد في معركة غزة الأسطورية وعمليات تصدي بطولية في الضفة الغربية.

في لبنان: خاض حزب الله معارك استنزاف على الحدود، واضعًا نفسه في معادلة الدفاع عن غزة.

في إيران: جاء الرد المباشر عبر اشتباكات جوية وصاروخية مع القوات الأميركية و”الإسرائيلية”، في مؤشر على انخراط إقليمي مباشر.

في العراق: وجهت المقاومة الإسلامية في العراق ضربات صاروخية وبالطيران المسير استهدفت القواعد الأمريكية في العراق وسوريا ومناطق حيوية تابعة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.

في اليمن: تنفذ قوات صنعاء عمليات عسكرية متواصلة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، أثرت على الملاحة البحرية، وعمليات مشابهة استهدفت مطار بن “غوريون” في منطقة اللد أثرت على الملاحة الجوية، لتؤكد أن اليمن حاضر في قلب معادلة الردع.

بهذا، تترسخ نظرية “وحدة الساحات” التي أعلنها محور المقاومة، حيث تتحول كل جبهة إلى رافعة للأخرى في مواجهة المشروع الإسرائيلي ـ الأميركي.

 

اليمن كبوصلة المقاومة الإقليمية

الرسالة الأبرز في خطاب الحوثي كانت أن اليمن يمثل حاضنة حقيقية للمقاومة في مواجهة المخططات “الإسرائيلية” الأمريكية، مستفيدًا من موقعه الاستراتيجي وسيطرته على مضيق باب المندب، فضلاً عن الخبرة العسكرية المتراكمة في مواجهة قوى العدوان.

وأشار إلى أن العدوان لا يقتصر على الحصار أو الضربات الجوية، بل يشمل الحرب الناعمة التي استهدفت الأمة الإسلامية بأكملها، محذرًا من أن التخاذل العربي والإسلامي سيمكن المشروع الصهيوني من فرض سيطرته على المنطقة.

في هذا السياق، أصبح اليمن نموذجًا لما وصفه بـ”الاحتشاد الشعبي المقاوم”، حيث يُعد الاحتفال بالمولد النبوي في صنعاء والمحافظات رمزًا للهوية الإيمانية والمقاومة الحضارية، ومؤشرًا على التمسك بالهوية الدينية والسياسية في مواجهة المخططات الخارجية.

 

المعركة الوجودية

وفق خطاب السيد الحوثي، العدوان الإسرائيلي على غزة تحول إلى معركة وجودية، وهو وصف تتقاسمه قيادات محور المقاومة، وأيضًا قادة الاحتلال الإسرائيلي أنفسهم، فرئيس حكومة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” ووزير حربه “يوآف غالانت” كانا قد وصفا الحرب بأنها وجودية، محذرين بالقول: “إذا هُزمنا فلن يكون لنا مكان في المنطقة”.

هذا التصريح يعكس قناعة راسخة لدى قادة العدو بأن المسألة لم تعد مجرد إدارة صراع دوري أو جولة مؤقتة، بل اختبار وجودي لمستقبل الاحتلال الإسرائيلي.

وخلافًا للتوصيفات “الإسرائيلية” التقليدية بـ”جولة”، يؤكد السيد عبدالملك الحوثي، بالتزامن مع تصريحات “نتنياهو” و”غالانت”، أن الحرب حرب وجود ومصير، وهي حرب فاصلة ستحدد مستقبل الاحتلال الإسرائيلي ومحور المقاومة، بل ومستقبل المنطقة برمتها.

وبدوره شهيد المقاومة الكبير السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني، لخص هذه الحقيقة بقوله: “إنها حرب وجود ومصير”.

 

فاعلية جبهة اليمن

اليمن، بعد عامين من الصراع العربي “الإسرائيلي” بموقعه الجغرافي والسياسي والعسكري، وتطور صناعاته الحربية، لم يعد ميدانًا ثانويًا، بل أصبح أحد الأركان الأساسية للمعادلة الوجودية:

  • يوحد الجبهات الإقليمية: من غزة إلى لبنان والحدود السورية، بحيث تعمل اليمن كرافعة للضغط على الأطراف الإقليمية والدولية.
  • يشكل عنصر ردع مباشر: عبر السيطرة على مضائق بحرية حيوية، تؤثر على التدخلات “الإسرائيلية” والأميركية.
  • يدعم استراتيجية محور المقاومة: بتوفير خطابات سياسية وإعلامية توحد الشعوب ضد المشروع الصهيوني، وتعكس قدرة اليمن على التأثير في الصراع الإقليمي.

في هذا السياق، يصبح اليمن جبهة استراتيجية مباشرة ثالثة بعد غزة ولبنان، حيث يساهم بفعالية في مواجهة التوسع “الإسرائيلي” وفرض قواعد الاشتباك الإقليمي، لا سيما عبر:

السيطرة على مضيق باب المندب، وتأثيرها على حركة التجارة والملاحة الدولية.

عمليات بحرية وعسكرية توازية في البحر الأحمر، ما يضع اليمن في قلب معادلة الردع الإقليمية.

دور سياسي وإعلامي في ربط قضايا المقاومة الفلسطينية واليمنية ضمن رؤية موحدة لمواجهة المشروع الصهيوني.

 

حرب إبادة.. بلغة الأرقام

توصيف السيد عبدالملك الحوثي لما يجري في غزة كـ”إبادة جماعية” يستند إلى معطيات صادمة:

مقتل وإصابة ما يقارب 10% من سكان غزة، أي ما يعادل أكثر من 226 ألف شخص بين شهيد وجريح.

تدمير البنية التحتية بنسبة تتجاوز 70%، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمراكز الحيوية.

نزوح مئات الآلاف وسط انعدام الأمن الغذائي ومنع دخول المساعدات الإنسانية الأساسية، بما فيها حليب الأطفال والأدوية.

مقارنة الأرقام مع سكان دول كبرى (35 مليون أميركي أو 150 مليون صيني/هندي) كما جاء في التحليل العسكري الذي استشهد به السيد عبدالملك الحوثي، يعكس حجم الكارثة بمقاييس عالمية.

 

تضحيات في مواجهة الإبادة

كما أشار السيد الحوثي، إلى أن العدوان على غزة جريمة القرن، لكن اليمن أيضًا تعرض لمحاولات الاستهداف المباشر وغير المباشر:

  • اغتيال الحكومة المدنية حكومة البناء والتغيير.
  • حصار اقتصادي واستهداف لموانئ وممرات استراتيجية.
  • الحرب النفسية والإعلامية لإضعاف الإرادة الشعبية.

ورغم هذه التحديات، بقيت اليمن صامدة ومقاومة، وهو ما يجعل من خطاب السيد الحوثي أكثر من مجرد خطاب سياسي، بل تقريرًا ميدانيًا عن مقاومة شعبية وجيوسياسية متماسكة.

 

صمت يواطئ الجريمة

في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه، لم تنجح المؤسسات الدولية ولا الأنظمة العربية في اتخاذ مواقف حقيقية.

المجتمع الدولي: اكتفى ببيانات تنديد دبلوماسية عاجزة عن وقف صاروخ أو حماية طفل.

الأنظمة العربية: لم تعقد اجتماعات طارئة فاعلة، ولم تفرض ضغوطًا حقيقية، بل انخرط بعضها في التطبيع أو لعب دور المتفرج والأدهى قيام بعضها بمد الاحتلال بالغذاء والسلاح.

هذه المفارقة دفعت السيد عبدالملك الحوثي للقول إن “الخطر الأكبر على الأمة ليس فقط في جرائم اليهود، بل في استمرار حالة التخاذل التي تهددها بالهلاك”.

 

من الجولة لحرب الوجود

لطالما اعتاد الاحتلال الإسرائيلي توصيف المواجهات مع المقاومة في غزة أو لبنان بـ”الجولات”، لكن ما يجري منذ أكتوبر 2023 يخرج عن هذا التوصيف لعدة أسباب:

المدة الزمنية: الحرب دخلت شهرها الثالث والعشرين، وهي الأطول في تاريخ المواجهات العربية ـ الإسرائيلية منذ 1948.

اتساع المسارح: لم تقتصر على غزة بل امتدت إلى لبنان، سوريا، البحر الأحمر، وإيران.

الأطراف المنخرطة: من أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى روسيا والصين التي تابعت تداعياتها بقلق.

النتائج المتوقعة: الحرب ستُنتج خريطة سياسية جديدة في المنطقة، وليست مجرد تعديل مؤقت لموازين القوى.

 

حرب عالمية ثالثة مصغرة

المفكرون الدوليون بدأوا يربطون الحرب في غزة وما حولها بصراع عالمي أوسع:

الفيلسوف الفرنسي إيمانويل تود وصفها بأنها “على حافة الحرب العالمية الثالثة”.

المنظّر الروسي ألكسندر دوغين ربطها مباشرة بالحرب في أوكرانيا وبالتوترات في بحر الصين والصراعات الاقتصادية والبحرية العالمية.

هذا الربط يعكس قناعة أن ما يجري في غزة ليس معزولًا، بل جزء من إعادة تشكيل النظام الدولي، حيث يتقاطع الشرق الأوسط مع الصراع على النفوذ بين واشنطن وبكين وموسكو، وأن اليمن ضمن هذا السياق يشكل نقطة محور حيوية في الصراع، إذ يؤثر على خطوط الإمداد والاقتصاد الدولي، ويضغط على الحلفاء الغربيين لإعادة النظر في استراتيجياتهم.

 

حرب ستُغيّر وجه المنطقة

من خلال خطاب السيد عبدالملك الحوثي وتحليل مسارات الحرب، يتضح أن المنطقة تقف أمام حرب فاصلة وجودية، ستحدد مصير الاحتلال الإسرائيلي، ومحور المقاومة، بل وربما ملامح النظام العالمي الجديد.

لم تعد القضية مجرد غزة المحاصرة، بل صراع على الهوية والوجود، بين مشروع صهيوني مدعوم بالغرب يسعى لفرض “إسرائيل الكبرى” وشرق أوسط جديد، وبين شعوب وقوى ترى أن المعركة هي معركة كرامة وبقاء.

الميدان وحده من سيحسم، لكنه ميدان لم يعد محصورًا في غزة، بل امتد إلى البحر والمضائق والحدود الشمالية، لتتحول القضية الفلسطينية من “جولة” محلية إلى حرب عالمية صغيرة ذات تداعيات كبرى.

وفي هذا السياق، يصبح وصف الحرب بـ”جولة” ترفًا لغويًا لا ينسجم مع واقع الدم والدمار الممتد، إنها حرب وجود فاصلة ومصيرية، كما قال قادتها على الجانبين، وستكتب نتائجها تاريخًا جديدًا للمنطقة على مستوى فلسطين، أو لبنان وسوريا وإيران والعراق واليمن، وصولًا إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي.

 

 

قد يعجبك ايضا