مشهد مؤلم: العودة التي ذابت في الرماد.. الأسير هيثم عاد بلا بيت ولا بنات
كتبها/عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية
كان يحلم طوال عامٍ بلحظة الحرية، ينتظرها كي يحتضن زوجته وأطفاله الثلاثة، ويُريهم الهدية التي صنعها بيديه في السجن: إسوارة وردية صغيرة كالأمل، لكنها كانت تحمل كل ما تبقى من قلبه.
كانت السماء رمادية حين خطا هيثم معين سالم أولى خطواته خارج أسوار السجن. كل ما كان يحلم به لحظة نيله الحرية هو احتضان أولاده الثلاثة، وضحكة زوجته إخلاص وهي تزغرد بدموعها.
لكن غزة كانت قد تغيّرت.. أو بالأحرى، احترقت.
هيثم يعود إلى غزة.. بلا غزة
هيثم، الموظف البسيط في بلدية بيت لاهيا شمال غزة، لا ينتمي لأي تنظيم سياسي. قضى عامًا في سجون الاحتلال، وخرج اليوم في صفقة تبادل، ليعود إلى غزة.. بلا غزة، بلا بيت، وبلا أسرة.
في يده اليمنى، حمل هيثم شيئًا صغيرًا، بدا كخيط ناعم من أمل إسوارة وردية كان قد صنعها بيديه في السجن، هديةً لابنته إيمان بمناسبة عيد ميلادها القادم.
كان يتحدث عنها لرفاقه في الزنزانة كل ليلة: “رح أرجع وأعطيها الهدية.. بدها تفرح في عيدها”.
لكن العيد لم يأتِ، ولا إيمان بقيت لتفرح.
الخبر الذي كسر الحرية
فور وصوله إلى غزة، بحث هيثم بعينين دامعتين عن وجوهٍ يعرفها.
لكن أحدًا لم ينتظره أمام البوابة.. لا إخلاص، لا إيمان، لا ليان، ولا براء.
سأل عنهم أول مرة بصوتٍ مرتجف، ثم ثانية، وثالثة.. حتى جاءه الجواب كرصاصةٍ في صدره: “كلهم راحوا، بيتكم انسوى بالأرض”.
تجمد في مكانه، لم يفهم بدايةً. ثم نقلوه إلى طوارئ المستشفى وهناك بدأ يصرخ بألمٍ يقطع القلب، وهو منهار على كرسي متحرك: “ماتوا أولادي! عملت الإسوارة هدية لبنتي عشان عيد ميلادها… وينها؟ وينهم؟!”
الحرية التي حلم بها عامًا كاملًا جاءت ملطخة برماد الفقد، وغزة التي انتظر أن يحتضنها، احتضنته بالبكاء.
خرج من سجن الاحتلال… إلى سجنٍ أكبر اسمه الخسارة والحسرة.
ناجٍ من الحياة
عاد هيثم يبحث عن بيته فلم يجد سوى الركام.
المنزل الذي كان يحتضن ضحكاتهم صار أطلالًا صامتة، وأسماء عائلته مُسحت من السجل المدني.
لم يتبقّ له سوى الإسوارة — الهدية التي لم تصل، والذكرى التي تحوّلت إلى شاهدٍ على جريمة حرب.
يقف اليوم هيثم بين أطلال بيته، يحمل صورهم المهترئة ويكرر كمن يحدث الغياب: “كنت جايبلكم فرحة.. رجعتو رماد”.
وجع غزة كله في عينيه
في عيون هيثم تختصر غزة وجعها كله.. آباء يعودون من السجن ليكتشفوا أن الحرب سبقتهم إلى البيت، وسرقت منهم كل شيء.. حتى ملامح الحياة.
في غزة، لا أحد يعود كما كان.. فالأحياء هنا يسيرون بين الرماد، يحملون وجعهم كما يحمل الناجون ذاكرة الحريق.