عبدالكريم مطهر مفضل/ وكالة الصحافة اليمنية//
على بعد أمتار قليلة من دخان غارات سلاح الجو الصهيوني، التي هزّت سماء العاصمة اليمنية صنعاء، ارتدت كرة قدم صغيرة عائدة نحو مجموعة من الأطفال، كانوا يركضون خلفها على أرض ترابية لا تحمل من ملامح الملعب سوى الخطوط التي رسموها بأنفسهم، لم يتوقفوا.. لم يصرخوا.. لم يختبئوا.. فقط واصلوا اللعب كأن شيئًا لم يحدث.
المشهد، الذي التُقط بكاميرا هاتف محمول وانتشر كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي، وثّق لحظة استثنائية من الشجاعة الطفولية، عندما قرر هؤلاء الصغار أن لا يمنحوا الغارات الصهيونية ولو بضع ثوانٍ من انتباههم، في رسالة صامتة لكنها أقوى من كل صخب القنابل.
الكرة التي تحدّت الطائرات
كانت الشمس تميل قليلاً إلى المغيب فوق العاصمة اليمنية صنعاء، حينما ارتفعت ضحكات مجموعة من الأطفال في حي شعبي، لا يحمل من مظاهر الطفولة إلا أحلامهم الصغيرة.. على أرض ترابية محفوفة بالحفر، دارت بينهم كرة قدم خفيفة، لكنها أثقل من الصواريخ.
ركض الأطفال خلفها بلهفة، كانوا يعرفون أن اللعب وقت الغروب هو الأفضل، حين تهدأ الشمس قليلًا، ويغيب الأهل في تفاصيل الحياة القاسية، ثم فجأة.. اخترق صوت الانفجار السماء، دوّى كالرعد.. لكنه لم يكن مطرًا هذه المرة، بل غارات صهيونية على العاصمة.. اهتزّ كل شيء، تصاعدت سحابة كبيرة من الدخان على بُعد مئات الأمتار من موقع لعبهم.
لم يكن في وجوههم ما يدل على وجود العدوان، لا رعب ولا وجل.. فقط مزيج من التحدي والحياة والضحك في وجه العدوان الإسرائيلي الغاشم.
لم ينظروا لم يتوقفوا، بل واصلوا الركض خلف الكرة التي توقفت في ركن الملعب الترابي، وكأنهم اتفقوا جميعًا بصمت أن لا يسمحوا للخوف أن ينتصر.
في تلك اللحظة، لم يكن الأمر مجرد لعبة.. كان فعل تحدٍّ واضح، ورسالة شعب كامل نطقت بها أرجل صغيرة حافية وقلوب كبيرة لا تعرف الانكسار.
شجاعة تحت النار
“والله ما في حسنا.. ما راح يخوفونا بغاراتهم”، قال أحد الأطفال لمصور الفيديو الذي طلب منهم الهروب، قالها بصوت طفولي لكنه مشبع بثقة رجل يواجه الخطر بجبين مرفوع.. لم يكن الطفل يقرأ من ورقة، ولم يُلقّن هذا الرد.. قالها ببساطة، وكأن التحدي صار جزءًا من يومياته، كما اللعب تمامًا.
ربما لم يدرك الطفل الذي نطق بتلك الجملة أنه دوّى بصوته أعلى من كل الطائرات. ولم يعرف أن كرة صغيرة دارت بين التراب والدمار قد أحرجت كل من صمت عن معاناة اليمنيين، وعرّت كل من يدّعي الإنسانية وهو يشيح بوجهه عن مشهد أطفال يلعبون في وجه الموت.
مفارقة الميدان
بينما أظهرت المقاطع القادمة من العاصمة اليمنية شجاعة الأطفال وهم يلعبون تحت دخان الغارات، كانت الكاميرات تنقل مشاهد على الضفة الأخرى من الحكاية، تُبث من الأراضي الفلسطينية المحتلة تُظهر المستوطنين الصهاينة يهرولون نحو الملاجئ، مذعورين، يرتجفون مع كل صافرة إنذار، المفارقة كانت قاسية ومعبّرة.. أطفال تحت القصف يلعبون، ومستوطنون محميون يفرّون إثر إطلاق صواريخ من اليمن ومن غزة.
في مقارنة غير مقصودة، بدت صورة الأطفال اليمنيين أشبه بلوحة مقاومة صامتة، ترسل للعالم رسالة من تحت الحصار: لسنا خائفين، ولن نتراجع، حتى ونحن نعيش طفولتنا في ظل طائرات الموت.
أطفال اليمن.. ذاكرة من تحت الركام
ليست هذه المرة الأولى التي يُظهر فيها أطفال اليمن شجاعة من نوع استثنائي.. فمنذ بدء الحرب التي تلفظ عامها العاشر، تعلّم هؤلاء الصغار أن يركضوا بين أصوات الانفجارات، ويحفظوا أسماء الطائرات من صوت محركاتها، ويبتكروا ألعابهم الخاصة وسط الخراب.. العالم لم ينسى حتى اليوم لعبة “سلم نفسك يا سعودي.. أنت محاصر”.
غير أن ما ميّز هذا المشهد تحديدًا، هو رمزيته: في الوقت الذي كان الموت يقترب على بعد أمتار، اختار الأطفال الحياة.. اختاروا الكرة، والضحك، والحركة، وكأنهم يوجهون صفعة للعدوان الذي لم يعرف كيف يقصف الإرادة.
هكذا هي الطفولة في اليمن.. تلعب رغم أنف العدوان، وتبتسم في حضرة الدخان، وتكتب، دون أن تدري.. أصدق ما يمكن أن يُقال عن معنى الصمود.
لا صدى في العواصم
وبينما تداول رواد مواقع التواصل هذا المشهد بكثير من الإعجاب والذهول، لم يصدر أي تعليق من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الطفل، ولا من عواصم القرار العالمي.. وكأن مشهد أطفال يلعبون تحت الغارات ليس مادة تستحق الإدانة، ولا حتى التعليق.
لكن اليمنيين، كما يبدو، لم يعودوا ينتظرون التصريحات، فهناك.. في أحد أحياء صنعاء، ما تزال الكرة تدور، والضحك يتعالى، رغم كل شيء.