جنين.. مختبر السيطرة “الإسرائيلية” ومقدمة مشروع “المنطقة العازلة”
تحليل/عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية
لم تعد الاقتحامات “الإسرائيلية” لمدينة جنين ومخيمها مجرّد “ردّ أمني” على عمليات فصائل المقاومة الفلسطينية، كما يدّعي جيش الاحتلال الإسرائيلي. فحجم الاستهداف، وانتظام العمليات، وطبيعة الأسلحة المستخدمة، تشير جميعها إلى خطة ميدانية استراتيجية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الأمنية والسياسية شمال الضفة الغربية، ضمن مشروع أوسع يُعرف داخل دوائر الاحتلال الإسرائيلي باسم “المنطقة الأمنية العازلة”.
ففي حين يُروّج الاحتلال الإسرائيلي أن عملياته “تهدف لتفكيك البنية التحتية للمقاومة”، تكشف الوقائع الميدانية أن جنين باتت نقطة اختبار لمفهوم السيطرة المتعددة المستويات: سيطرة أمنية ميدانية، وضبط سكاني، وإعادة هندسة البيئة الاجتماعية، تمهيدًا لعزلها فعليًا عن باقي محافظات الضفة.
الاحتلال كمهندس ديموغرافي
منذ مطلع 2024، لوحظ تغيّر جوهري في سلوك جيش الاحتلال الإسرائيلي في شمال الضفة. فبدل الاقتحامات القصيرة، انتقل إلى التمركز الطويل داخل المدن، مصحوبًا بعمليات هدم متكررة للبنية التحتية المدنية، خصوصًا الطرق، وشبكات الكهرباء والمياه، والمؤسسات التعليمية.
تُظهر خرائط هيئة تخطيط الاحتلال الإسرائيلي – وفق ما نشرته صحيفة “هآرتس” العبرية في يوليو الماضي – أن المنطقة الممتدة من معبر الجلمة شرق جنين حتى غرب مغتصبة “كفر دان” أُدرجت ضمن نطاق “إعادة التنظيم الأمني”، وهو توصيف إداري جديد يعني عمليًا تحويل الشريط المحيط بجنين إلى نطاق مراقبة دائم.
ويؤكد خبير الخرائط الفلسطيني عبد الرازق ياسين أن هذه السياسة تعيد إنتاج تجربة “الحزام الأمني” في جنوب لبنان، ولكن بأسلوب ناعم يعتمد على تهجير تدريجي عبر الحصار والدمار، لا عبر الإخلاء المباشر.
يقول ياسين: “الاحتلال لا يريد تدمير جنين فقط، بل يريد إعادة تعريفها جغرافيًا.. يريدها بلا امتداد، بلا حدود مفتوحة، بلا قدرة على التواصل مع نابلس وطولكرم”.
التقنية قبل الرصاصة
إحدى السمات اللافتة في العدوان الإسرائيلي الحالي هي الاعتماد المفرط على التكنولوجيا العسكرية الدقيقة: طائرات استطلاع صغيرة، وأجهزة مراقبة حرارية، وأنظمة تنصت محمولة على أبراج متنقلة، وشرائح تتبع وضعت بداخل الملابس الجاهزة.
بحسب مصادر ميدانية من داخل المخيم، فإن الاحتلال أنشأ منذ أبريل الماضي شبكة استشعار إلكترونية حول المدينة، تعمل على رصد أي تحركات مشبوهة أو اتصالات مشفرة.
تسريبات نُشرت في موقع “واي نت” العبري كشفت أن الوحدة 8200، المسؤولة عن الاستخبارات الإلكترونية، تستخدم جنين كميدان تجريبي لتطبيق منظومة تتبع تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تسمح بتحليل أنماط الحركة داخل الأحياء، وتحديد مواقع المقاومين بدقة.
أي أن المواجهة في جنين لم تعد مجرد اشتباك بين مقاوم ومحتل، بل تحوّلت إلى صراع بين فصائل المقاومة الفلسطينية والذكاء الاصطناعي “الإسرائيلي”، في سباق ميداني غير متكافئ.
اقتصاد الحصار البطيء
لا تقتصر أدوات الاحتلال على الرصاص والدرونز. فالحصار الاقتصادي جزء عضوي من خطة الإخضاع.
وفق بيانات الغرفة التجارية في محافظة جنين، انخفضت حركة التجارة الداخلية بنسبة 63٪ منذ يناير الماضي، وأُغلقت أكثر من 120 منشأة صغيرة بسبب الاقتحامات وقطع الطرق.
كما تم تعطيل معبر الجلمة التجاري أكثر من 40 يومًا خلال الربع الأخير وحده، ما أدى إلى خسائر تُقدّر بعشرات ملايين الشواقل.
ويقول أحد التجار: “يخنقوننا بالبطء، لا يريدون أن نموت دفعة واحدة، بل أن نتعوّد على الحياة بلا أفق”.
هذه السياسة تُذكّر بسياسة “الاقتصاد الرمادي” التي استخدمها الاحتلال في قطاع غزة خلال سنوات الحصار الأولى منذ بداية سبتمبر 2005م، عندما ربط الإمدادات بمتغيرات الأمن والسياسة، وخلق حالة من الاعتياد على الندرة، بحيث تصبح النجاة اليومية بحد ذاتها نجاحًا للاحتلال، وجرى تشديد هذا الحصار في يناير 2006م بعد فوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية.
التنسيق الأمني كذراع موازٍ
في الوقت الذي تواصل فيه قوات الاحتلال عملياتها اليومية، تُنفذ أجهزة أمن السلطة الفلسطينية اعتقالات متزامنة بحق مقاومين سابقين وأفراد من كتيبة جنين.
وبحسب مصادر محلية، هناك تنسيق غير معلن يهدف إلى تجفيف حاضنة المقاومة، عبر الملاحقة من جهتين: جيش الاحتلال الإسرائيلي من الخارج، وأجهزة سلطة محمود عباس من الداخل.
هذه الازدواجية الأمنية أنتجت حالة من الانقسام الداخلي، بحيث بات المقاومون يتحركون في حلقة مغلقة بين الملاحقة والاختباء، فيما يشعر السكان بأنهم محاصرون بين احتلالين داخلي وخارجي.
وبحسب المعطيات المحلية للجنة الإعلامية في جنين، بلغ عدد شهداء محافظة جنين منذ بدء العدوان في 21 يناير 2025 نحو 65 شهيداً، بينهم 4 أربعة قضوا برصاص أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في اشتباكات متفرقة، كما تحتجز السلطة الفلسطينية أكثر من 46 شاباً من مخيم جنين.
ويرى الخبير الأمني فايز الصلاح أن هذا النموذج يعكس تحوّل جنين إلى مختبر سياسي لتجريب صيغة “الأمن المشترك” التي تنوي “إسرائيل” تعميمها في شمال الضفة، بحيث تُدار المدن الكبرى أمنيًا عبر شراكة غير متكافئة مع قوات “أبو مازن”، وتبقى السيطرة الفعلية بيد الاحتلال.
الهدف النهائي: فصل الشمال عن القلب
التحليل البنيوي لعمليات الاحتلال الإسرائيلي في محافظة جنين يكشف أن الهدف لا يتوقف عند القضاء على فصائل المقاومة، بل يمتد إلى خلق قطيعة جغرافية بين شمال الضفة ووسطها، تحديدًا بين جنين ونابلس.
ذلك ما يفسّر تكثيف الحواجز العسكرية، وتوسيع المستوطنات بين سيلة الظهر والريحانية، وهي نقاط يمكن أن تتحوّل إلى خط تماس دائم يمنع التواصل البشري والتجاري بين المنطقتين.
وتشير ورقة بحثية صادرة عن “مركز القدس للشؤون العامة” في أغسطس الماضي إلى أن خطة الاحتلال الإسرائيلي تهدف لإقامة منطقة أمنية عرضها 15 كيلومترًا شمال الضفة، تمتد من معبر سالم غربًا إلى معبر الجلمة شرقًا، ويُمنع فيها البناء أو التنقل دون تصاريح خاصة.
بكلمات أخرى، ما يحدث في جنين اليوم هو خطوة تنفيذية أولى لمشروع العزل الأمني الكبير، الذي سيحوّل شمال الضفة إلى كيان شبه مغلق، معزول عن نابلس ورام الله.
مقاومة الذاكرة والهوية
ورغم هذا التمهيد المنهجي، تبقى جنين عصيّة على هندسة الاحتلال الإسرائيلي.
فالمخيم الذي دمّر الاحتلال أكثر من نصفه خلال عام واحد، ما زال يُعيد ترميم نفسه كما لو كان ذاكرة تتجدّد كل صباح.
وفي كل اقتحام، يخرج الأطفال ليوثّقوا المشهد بالهواتف المحمولة، كأنهم يقولون للعالم: نحن جيل الشهود.. لن تمحونا من الصورة.
الاحتلال قد ينجح مؤقتًا في تمزيق الخريطة، لكنه يعجز عن محو الوعي الجمعي الذي جعل من جنين رمزًا للمقاومة الفلسطينية، ومن كل بيت فيها قصةً من الصمود.
ما بعد المختبر
في ميزان القوة، يبدو الاحتلال الإسرائيلي متفوقًا بكل شيء: السلاح، التقنية، الدعم الدولي.
لكن في ميزان الإرادة، تقف جنين وحدها كمختبر عكسي يفضح هشاشة القوة “الإسرائيلية”.
فكل محاولة للسيطرة عليها تتحول إلى مأزق سياسي وأخلاقي، وكل غارة تنتهي بمزيد من التعاطف الشعبي مع المقاومة.
وهكذا، بينما يُخطط الاحتلال الإسرائيلي لبناء “منطقة عازلة”، تُحوّل جنين نفسها إلى منطقة مشتعلة لا تُضبط بالنار ولا تُروّض بالخوف.
وما دامت المدينة ترفض الصمت، سيبقى مشروع الاحتلال الإسرائيلي ناقصًا، عاجزًا عن تثبيت معادلة “الأمن مقابل الصمت”، لأن صوت جنين أعلى من كل طائرة وأدق من كل كاميرا مراقبة.