من البحر الأحمر إلى محطات تل أبيب.. كيف يضرب حصار صنعاء شرايين الاقتصاد الصهيوني؟
فلسطين المحتلة | وكالة الصحافة اليمنية
تحت وطأة الحصار البحري الذي فرضته قوات صنعاء على الملاحة الإسرائيلية والمرتبطة بالكيان في مياه البحر الأحمر وخليج عدن، لم تقتصر فصول الانكشاف الاقتصادي على تقارير مالية جامدة. لقد تحولت الأزمة إلى سردية معقدة تتشابك فيها خيوط السياسة بالاقتصاد، لترسم مشهد خسائر يمتد من أعماق البحار إلى صخب المطارات وصمت محطات القطارات، مبرزًا كيف أصبحت الأرقام المالية مجرد انعكاس لحركة ديناميكية تضرب شرايين الكيان؟
ففي سياق مفعم بالتوتر، أعلنت شركة “زيم” الإسرائيلية العملاقة للشحن البحري عن انهيار أرباحها بنسبة صادمة بلغت 94% خلال الربع الثاني من العام 2025. الأرقام، التي كشفت عنها الصحيفة الاقتصادية “كالكاليست”، تشير إلى أن صافي الأرباح لم يتجاوز 24 مليون دولار، في تناقض حاد مع الفترات السابقة.
وفي محاولة مكشوفة للتضليل، سارع الإعلام الإسرائيلي، مدفوعاً بتصريحات الشركة، إلى إلقاء اللوم على قرار جمركي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. بيد أن تحليلاً معمقاً للقوائم المالية يُظهر حقيقة مغايرة تماماً. فالسبب الحقيقي وراء هذا الانهيار المدوي هو الانخفاض الحاد في النشاط التشغيلي وارتفاع التكاليف، وهي نتائج مباشرة للحصار البحري الذي تفرضه القوات المسلحة اليمنية على الموانئ والسفن الإسرائيلية.
هذا الحصار، الذي وصل تأثيره إلى حد الإغلاق الكامل لموانئ حيوية مثل ميناء أم الرشراش، أجبر الشركة على إعادة توجيه مسارات شحنها بعيداً عن البحر الأحمر، مما زاد من تكاليف التشغيل بشكل فلكي. وفي شهادةٍ على الأثر المدمر، اعترف الرئيس التنفيذي للشركة بضرورة “الالتفاف بعيداً عن البحر الأحمر”، وهو ما يترجم بشكل مباشر إلى زيادة هائلة في تكاليف الشحن وتآكل في الأرباح.
أزمة ثلاثية الأبعاد للنقل الصهيوني
امتدت تداعيات الحصار على القطاع البحري لتُلقي بظلالها القاتمة على كافة مجالات النقل الإسرائيلية، كاشفة عن هشاشة منظومة النقل في الكيان، حيث تُظهر الأرقام الرسمية الصادرة عن مطار “بن غوريون” خلال الفترة من يونيو 2024 إلى يونيو 2025، انخفاضاً كارثياً في حركة المسافرين بنسبة 41.79%، وتراجعاً في عدد الرحلات بنسبة 35.10%. هذه الصدمة أدت إلى عواقب فورية، حيث أعلنت الرئيسة التنفيذية لشركة “العال” استقالتها في يوليو 2025، في مشهدٍ يجسد حجم الأزمة التي تضرب القطاع الجوي.
في السياق، شهد قطاع السكك الحديدية الإسرائيلي تدهوراً متسارعاً، تتكشف خيوطه المعقدة في تراجع حاد في الأرباح وتوقف مفاجئ لحركة القطارات. تلك الأزمة، التي لم تكن وليدة اللحظة، بل تراكمت عبر سنوات من التحديات الهيكلية والمالية، وجدت اليوم مساحة إضافية للتفاقم تحت وطأة عوامل خارجية، أبرزها الضغط الذي تمارسه المقاومة في اليمن.
على إثر العمليات البحرية التي استهدفت خطوط الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب، تحولت مسارات الشحن العالمي بعيداً عن قناة السويس. هذا التحول تسبب في ضربة مباشرة لسلاسل التوريد الحيوية. تأخرت شحنات المعدات الضرورية لمشاريع كهربة السكك الحديدية وتطويرها، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في تكاليف الشحن والتأمين، فضلاً عن تضاعف زمن وصول المواد الأساسية.
هذا الضغط على سلاسل التوريد يتوازى مع ضغط مالي عام على الميزانية الإسرائيلية. مع تراجع إيرادات الموانئ الإسرائيلية وانخفاض حركة الاستيراد والتصدير، تقلص التمويل الحكومي المتاح لمشاريع البنية التحتية، التي تعتمد عليها شركة السكك الحديدية بشكل كبير. هذا التراجع في الدعم المالي، بالتزامن مع الحاجة المتزايدة للتركيز على الأولويات العسكرية، خلق واقعاً صعباً حيث أصبحت مشاريع التطوير والتحسين مهددة بالتوقف.
يضاف إلى ذلك، تراجع حركة الركاب والبضائع، وخصوصاً تلك المرتبطة بالموانئ. فرع الشحن التابع للشركة، والذي كان يعاني من خسائر متراكمة، تلقى ضربة إضافية مع قلة البضائع المنقولة. كما أن المناخ الأمني والاقتصادي المتردي أثار قلق الشركات الدولية، مما جعلها تتردد في الالتزام بمشاريع طويلة الأجل، وهو ما يهدد قدرة الشركة على الاستفادة من الخبرات الأجنبية في تنفيذ المشاريع الكبرى.
بموازاة هذه التحديات الخارجية، تعاني الشركة من مشكلات داخلية عميقة. مشروع كهربة الشبكة، الذي كان من المفترض أن يكتمل في 2021، واجه تأخيرات مستمرة، لتتجاوز التكاليف التقديرات الأولية بشكل كبير. وقد زادت الأوضاع الراهنة من تعقيد الموقف، حيث تم سحب فريق العمل الإسباني، مما أدى إلى توقف الأعمال لعدة أشهر.
كما أن مشاكل البنية التحتية ظهرت بشكل درامي، كان أبرزها حادث 14 أغسطس 2025، عندما تسبب قطار بضائع في تلف واسع لأسلاك التوصيل الكهربائي، مما أدى إلى شلل كامل في أجزاء حيوية من الشبكة. هذا الحادث، الذي يُرجّح أن يكون ناجماً عن سوء تأمين الحمولة، كشف عن هشاشة البنية التحتية والحاجة الماسة إلى صيانة وتحديث.
تتفاقم الأزمة بفعل القيود الدينية التي تفرضها الأحزاب الحريدية، والتي تمنع تنفيذ الأعمال في ليالي الجمعة وأيام السبت، مما يتباطأ من وتيرة العمل ويزيد من تأخير المشاريع. كل هذه العوامل، من نقص في عربات الركاب وسوء التخطيط، إلى الخسائر المالية المستمرة والاعتماد الكبير على الدعم الحكومي، ترسم صورة قاتمة لمستقبل قطاع النقل الحيوي هذا.
بشكل موازٍ، تُظهر الأرقام المالية تراجعاً حاداً؛ فقد انخفض صافي أرباح الشركة من 95 مليون شيكل في النصف الأول من 2024 إلى 61 مليوناً في النصف الأول من 2025، ما يعادل انخفاضاً بنسبة 35%. هذا الانكماش المالي هو شهادة على فشل الشركة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ويضعها على مفترق طرق يتطلب قرارات حاسمة لإنقاذ ما تبقى من قدرتها التشغيلية والمالية.