يعلم الإسرائيليون جيداً هول ما صنعوا، ويدركون تماماً فداحة ما ارتكبوا، ويعرفون أن الجرائم التي اقترفوها أكبر من أن تنسى وأعمق من أن تدمل، وهي لفظاعتها أكثر فحشاً وأشد وحشية وقبحاً من أن تغفر، فالتاريخ لم يشهد مثلها دمويةً، ولم تعرف حروبه أمداً طويلاً ضروساً مثلها، وهي لكثرتها واتساع نطاقها وشمولها أوضح من أن تنكر نتائجها أو تخفى معالمها، فقد شهدها العالم كله الذي صمت عليها، وتابعها وشجع عليها، وشارك فيها وساهم، ودعم الكيان المجرم بالمزيد من الأسلحة لاستمرارها، وهي لذلك لن تشطب من صفحات التاريخ مهما تقادمت، ولن يتجاوزها الفلسطينيون أو يغضوا الطرف عنها مهما تتابعت الأجيال وتوالى الأولاد والأحفاد.
الإسرائيليون يعرفون ذلك جيداً ويتحسبون منه، ويخشون تداعياته وتبعاته، ويخافون من أيام الحساب العصيبة القادمة، ويدركون أنها ستأتي مهما تأخر الزمن، وستكون قاسيةً عسيرةً ولن يحميهم منها أحدٌ، ويدركون أن بقاء الحال على حاله هو من المحال، فلا كيانهم سيبقى قوياً إلى الأبد، ولا حكوماتهم المتطرفة ستقوى على حمايتهم والدفاع عنهم، ولا الولايات المتحدة ستبقى قوية موحدة وقادرة ومهيمنة، فسيأتي زمان فيه تنهار أو تضعف، وتتعدد الأقطاب وتتنافر، وتتصارع وتنافس، وتفقد الولايات المتحدة الأمريكية ثقلها في المنطقة، وتأثيرها على حكوماتها وسياساتها، كما لن يبقى العالم مخصياً ضعيفاً عاجزاً يتفرج ولا يملك القدرة على الضغط والتأثير، أو التغيير والتبديل.
والأهم من هذا كله، والأكثر واقعية والأقرب أملاً، وهي ليست طوباوية أو أحلام وردية أو خيالٌ جامح، أن الأمة العربية والإسلامية، لن تبقى ضعيفةً إلى الأبد، ولن تبقى مستخذيةً مدى الحياة، ولن يستمر هوانها، ولن يطول ذلها، ولن يبقى حكامها عبيداً يطيعون، وقطيعاً يساقون، وأدواتٍ يستخدمون، وعصا بها يهشون ويلوحون، ويضربون ويبطشون، ويرهبون بها شعوب بلادهم ويقمعونهم، ويمنعونهم من الثورة على الظلم ورفض الذل والتطلع نحو الحرية والمستقبل، والعزة والكرامة والاستقلال الناجز، والحرية الذاتية في تقرير المصير، ورسم السياسات، واتخاذ المواقف، والتعبير عن الأماني والرغبات.
يدرك الإسرائيليون ومعهم دول العالم قاطبةً أن سبات الأمة العربية والإسلامية لن يطول، وأن نومها لن يكون أبدياً، وضعفها لن يبقى سرمدياً، بل سيأتي اليوم الذي فيه ينهضون من كبوتهم، واليوم الذي فيه من نومهم يهبون ومن سباتهم يبعثون، والتاريخ على أحوالهم شاهد وعلى صروفهم حاضر، فما استكانوا يوماً على ظلمٍ، ولا رضوا بذلٍ، ولا خنعوا لمستعمرٍ ولا ضعفوا أمام متجبرٍ، ولا قبلوا بالتسليم والتنازل عن حقوقهم لعدوٍ غازٍ، مهما بلغت قوته، وسادت سلطته، وطغا جبروته واستبد حكمه، وشعوب هذه الأمة ولادة، وعلى ظلامها ثائرة، وما من حاكمٍ استبد بهم إلا اندثر، ولا سلطانٍ حاول إذلالهم إلا سقط، إلى أن يأتي من بينهم قائدٌ يمضي بهم نحو نصر حطين وعين جالوت جديد، وفتحٍ للقدس وتطهيرٍ لفلسطين.
يعرف الإسرائيليون أن هذا اليوم إن أتى، عليهم أو على أجيالهم التالية، وهو لا محالة آتٍ بإذن الله، فهذه سنة الحياة وسيرة الشعوب وحياة الدول ومصارع الملوك ونهايات الممالك، فإن الفلسطينيين ومعهم العرب والمسلمين لن ينسوا جراحاتهم، ولن يطووا الصفحة على معاناتهم، ولن يغفروا أو يسامحوا، ولن يصفحوا ويعفوا، بل سيفتحون كل الدفاتر القديمة، وسيستعيدون كل المذابح التي تعرضوا لها، والمظالم التي عانوا منها، وسيحاسبون ظلامهم ومن اعتدى عليهم وارتكب في حقهم الجرائم والمذابح، وستكون أيديهم خشنة وأقدامهم ثقيلة، فلا عاش من سامح وغفر وفرط في دماء الأهل والشعب، وغض الطرف خلقاً وأدباً، وشهامةً ونبلاً، فهذه الشيم لن يكون لها مكان، ولن يكون لأصحابها وجود، وإلا تكررت المذابح وعادت بعد حينٍ المجازر، وعاد العدو بعد استعادة القوة وبناء الذات إلى العدوان من جديد، والاستعلاء مرةً أخرى، والقتل والإبادة، والبطش والقمع والإساءة.
حتى لا تبقى هذه مجرد أحلام وأماني، ورغبات ودعوات، ونركن إليها ونطمئن أنها ستأتي دون جهودٍ تبذل، وبلا خطط ومشاريع تعد وتدرس، وبلا عملٍ وإعدادٍ وتجهيزٍ متواصلٍ، وحتى يخشى العدو منها ويخاف، ويتحسب منها ويستعد لها، ويدرك أنها قادمة حتماً وواقعة لا ريب، فإنه ينبغي علينا العمل لهذا اليوم، والسعي الجاد لهذا الهدف، وإعداد الجيل المناسب للنصر، وتهيئة البيئات التي تستحق الفوز، وعليها تنعقد الآمال وتتحقق الأحلام، والتضحية في سبيل هذا الهدف النبيل الذي سيذكره التاريخ وستخلده الأيام، فليس أعظم يوماً من يومٍ نسترد فيه كرامتنا، ونستعيد فيه أرضنا، وندحر عدونا، ونثأر منه لشهدائنا، وننتقم منه لسوء ما جنته يداه، ويدفع وأجياله ضريبة جرائمه، تشرداً وتيهاً، وتشرذماً وضياعاً، جزاءً نكالاً عدلاً وإنصافاً.
يتبع ……
صحافي ومحلل سياسي فلسطيني